العدد 607 - الثلثاء 04 مايو 2004م الموافق 14 ربيع الاول 1425هـ

سيناريو الاختراق... من السودان إلى العراق!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

منطقة من فوضى... هذه هي خلاصة قراءة الخريطة العربية...

فما يجري في السودان خطير، يفتح أبواب الشيطان أمام تطورات دراماتيكية لهذا البلد العربي الإفريقي، متعدد الأجناس والأعراق والأديان والثقافات، ذلك أنه للأسف يجري نحو الهاوية، ويجرنا معه...

وهاوية السودان غدا، لن تقل بحالٍ من الأحوال عن هاوية فلسطين بالأمس، وهاوية العراق اليوم، وستتبعه هاوية أخرى لدول عربية أخرى على القائمة... قائمة التفجير من الداخل كلما أمكن، والغزو - التدخل من الخارج عندما يحتاج الأمر إلى إكمال الانحدار...

انظر إلى خريطة التفجير من الداخل، يرسمها خبير فائق القدرة، وتنفذها قوى ومنظمات من الداخل أحيانا، تحركها شعارات سياسية أو دينية أو مطالب اجتماعية، وتستغلها قوى أخرى من الخارج، ولا نظن أن دولة عربية واحدة، نجت خلال العقدين الأخيرين، من هذه التفجيرات، من المغرب والجزائر إلى لبنان وسورية والخليج والسعودية حديثا واليمن، مرورا بمصر والأردن والسودان والصومال، وإن ظلت فلسطين والعراق حالتي استثناء شاذ!

وبينما قادتنا مازالوا غير متفقين على مجرد اللقاء للنظر في التحديات والمخاطر الرهيبة، التي تتفجر كل يوم تحت أقدام الجميع، فإن السفاح شارون يكمل الآن الأسوار حول «إسرائيل الكبيرة»، بابتلاع 90 في المئة من فلسطين التاريخية، تاركا 10 في المئة فقط على شكل كانتونات معزولة للشعب الفلسطيني المقاوم، ليأكل بعضه بعضا من شدة الجوع والفقر الذي ينتظره في الغد...

والغد ليس بعيدا، فمازال حلم «إسرائيل الكبرى» هذه المرة، يراود شارون وكل إسرائيلي متعصب، تلك الممتدة من النيل إلى الفرات، وها هو الفرات الواقع في قبضة الاحتلال الأميركي - حليف الاحتلال الإسرائيلي يجر إلى فتح قنواته للإسرائيليين، بعدما سدّت منافذ النيل في وجوههم، حتى الآن على الأقل!

وبينما تلتهي شعوبنا المغلوبة على أمرها، بمهرجانات الرقص ومباذل الغناء وخلاعة الشاشات وسطحية الدعايات، يمضي رجل الحرب الأميركي الرئيس بوش، في تنفيذ سياساته بعيدة المدى لتفتيت وحدة العراق، إلى دويلات طائفية وعرقية، عربية كردية سنية شيعية مسيحية وربما يهودية أيضا، بعد أن أتم احتلاله عسكريا، وأعاد تشكيله وفق ما يراه، معلنا على لسان وزير خارجيته كولن باول قبل أيام، أن نقل السيادة إلى العراقيين ستكون سيادة منقوصة...

وشرح الرجل السيادة المنقوصة، بقوله: إن الوضع في العراق، سيصبح مثل الوضع الذي عاشته ألمانيا وكوريا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إذ السيادة السياسية للشعبين، أما السيادة العسكرية فهي للجيش الأميركي... الأمر واضح، ورسمي تحدده اتفاقات ومعاهدات يفرضها المنتصر على المهزوم...

وبينما تندفع دول الشمال الإفريقي نحو الشاطئ الأوروبي، بحكم المصالح، تحاول النجاة بنفسها من صراعات إفريقيا ومشكلات العرب، فإن التفجيرات المرسومة والهجمات الإرهابية، تنشط لتضرب سورية والسعودية واليمن والأردن، ليست فقط لهز استقرارها، ولكن أساسا لتفكيك وحدتها وإعادة تفتيتها ربما إلى كانتونات ودويلات، لا تزيد كثيرا على كانتونات فلسطين ودويلات العراق...

وبينما يسابق الخليج الزمن لتوطيد أسس الاتفاقات والمعاهدات الدفاعية مع دول الغرب، ويسارع حلف الأطلنطي إلى نسج خيوطه هناك، يزداد النفوذ السياسي والعسكري الأميركي على محمل الخريطة العربية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، من دون استثناء...

الآن جاء الدور على مصر، ونظن أن المصريين الآن هم أكثر الناس شعورا بالاختناق، وتوجسا من العزلة والحصار القادمين بسرعة رهيبة، تعادل سرعة حدوث كل هذه التطورات وغليان تلك الحوادث من حولها... عالم عربي يتمزق، ليس فقط بفعل التدخلات الأجنبية والنفوذ الإنجلو - أميركي، ولكن أيضا بفعل الاحتقانات الداخلية والمظالم ومظاهر القهر والتهميش الاجتماعي، وإساءة استخدام السلطة واستغلال الثروة في كل بلد على حدة.

«إسرائيل» بترسانتها النووية - السادسة في العالم - على حدود مصر الشرقية، وحلف الأطلنطي في مياهها الشمالية، وانحدار السودان نحو الهاوية يخنقها من الجنوب، بينما النفوذ والضغط الأميركي يملأ على الناس أنفاسهم، فهل اقترب الدور؟!

نعتقد أن ما يجري في السودان وللسودان، هو المقدمة الحقيقية لخنق مصر، سواء بحرمانها من عمقها الاستراتيجي في قلب إفريقيا، أو بالتحكم في مياه النيل شريان حياتها، ولا ندري إن كان مخططو السياسة ومفكرو النخبة، «إن كان هناك»، قد فكروا، ثم فكروا واستعدوا لمواجهة هذه التطورات، أم ان المسألة أصبحت مختصرة مبتسرة في التصريحات الإعلانية عن الفترة الذهبية للعلاقات الوردية بين حكومتي وادي النيل!

نخشى القول إن ما يجري الآن في السودان وللسودان، وسرعة تطوره، نعني تدهوره، قد فاجأ الجميع، فضبطوا متلبسين بالارتباك والذهول، وسارعوا ليس إلى المشاركة في ما يجري بإيجابية، ولكن في لملمة معلومات سطحية أصبحت قديمة...

أما الجديد، فهو سيناريو تقسيم السودان إلى ثلاث أو أربع دويلات، وفق ذات الأسس العراقية، مع فارق الأوضاع، ونعني الأسس العراقية الدينية الطائفية، باسم حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحريتها في تقرير المصير، ومسئولية الدول الكبرى، وخصوصا أميركا، في ممارسة «حق التدخل الإنساني».

لقد قطعت «مفاوضات السلام» بين حكومة الخرطوم، والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد «جون قرنق»، خطواتها النهائية تقريبا، بعد عقود دامية من حرب ملعونة في الجنوب، اندلعت لأسباب ملخصها القهر والتهميش والظلم السياسي الاقتصادي والاجتماعي، وبعد الاتفاق على تقسيم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب، أصبح الطريق ممهدا لانفصال الجنوب بأعراقه الإفريقية ودياناته المتعددة ما بين المسيحية والوثنية القديمة، عن الشمال العربي المسلم، بصرف النظر عن مقولات ترويج خيار الوحدة بين الجنوبيين خلال الفترة الانتقالية والمقدرة بست سنوات.

وفي حين جرت هذه الصفقة تحت مظلة «الإيغاد» التي تضم دول شرق إفريقيا، جرى إقصاء مصر قسرا، فإن النفوذ والضغط الأميركي المباشر، مسنودا بدعم أوروبي وكنسي، كان هو العنصر الحاسم...

الآن، انفجر في وجوه الجميع اللغم الثاني في السودان، وهو الصراع الدموي الدائر منذ بدايات العام الماضي في إقليم دارفور غربي السودان بولاياته الثلاث، التي تضم ما بين 3 إلى 4 ملايين نسمة... عندما تم إنجاز ما نعتقد أنه اتفاق التمهيد لانفصال الجنوب في دولة مستقلة، أو الإعداد لدويلة أخرى في الغرب، إذ اندلع صراع مسلح على مدى الأربعة عشر شهرا الماضية، وفق أسس عرقية هذه المرة أيضا، بين القبائل الإفريقية الأصل وهي في معظمها مسلمة، وتضم ثلاث مجموعات رئيسية، هي قبائل الفور «التي سميت المنطقة باسمها» وقبائل الزغاوة وقبائل المساليت، وتمثلها منظمتان رئيسيتان هما حركة العدالة والمساواة، وحركة جيش تحرير السودان، على طرف واحد.

أما طرف الصراع الآخر، فهو القبائل العربية بميليشياتها المسلحة المعروفة باسم «الجنجويد» مدعومة بالجيش السوداني، الذي نقل عملياته الرئيسية من الجنوب في ظل الهدنة القائمة إلى الغرب المتمرد، فإذا الحريق يشتعل والدماء تنزف، ومليون مواطن يفرون في الصحراء السودانية أو عبر الحدود إلى تشاد المجاورة، وإذا بالعالم يصرخ متحدثا عن «حرب تطهير عرقي» يمارسه العرب ضد الأفارقة، على رغم أنهم جميعا مسلمون في هذه الحالة.

ولاشك في أن تهديد أمين عام الأمم المتحدة بالتدخل العسكري، لوقف التطهير العرقي، لم يكن هزلا، وأن تحرك دول أوروبا، وضغط أميركا وتدخلها، وبيانات منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان في أصقاع الأرض بشأن «فظائع ما يجري في دارفور»، لم تذهب هباء، ولم تكن فزاعة بل كانت قارعة!

الآن... لماذا جرى ما جرى ويجري في درافور، بعد ما حدث في الجنوب... هل هو مجرد رغبة في التمرد، أم أنه ناتج عن توتر فاحتقان داخلي، تراكم عبر السنين بفعل إهمال العاصمة للأقاليم، واستئثار المركز بالحكم والسلطة والثروة، وتهميش الأطراف غربا وجنوبا وشرقا؟ وشرقا هذا هو الذي يستعد الآن لأخذ دوره في سيناريو التفتيت والتقسيم والاختراق، ليصبح السودان أربع دويلات، واحدة في الجنوب، وثانية في الغرب، وثالثة في الشرق، ورابعة في الشمال حول الخرطوم!

الحقيقة التي يجب أن نصارح بها الجميع، أن ما جرى ويجري في السودان، هو مجرد نموذج ثالث للفشل العربي، بعد فلسطين والعراق، يمهد للنموذج الرابع وفق الدور، وإذا كنا نستنكر التدخلات الأميركية والأجنبية، التي ساعدت وربما موّلت وسلّحت حركات الانفصال والتمرد... فمن باب أولى أن نلوم أنفسنا ونقرّع مسئولينا، الذين راكموا على مرِّ العهود ثقافة قهر الآخرين وتجويعهم، وزرعوا بالتالي ثقافة التمرد والانفصال!

خير الكلام:

يقول أبوالقاسم الشابي، مخاطبا الظالم:

سيجرفُك السيلّ، سيلُ الدماءِ

ويأكلكَ العاصفُ المشتعلْ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 607 - الثلثاء 04 مايو 2004م الموافق 14 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً