بعد هزيمة رئيس الحكومة الإسرائيلي أرييل شارون من قبل حزبه (الليكود) في الاستفتاء، وعد شارون كتلة المتطرفين العنصرية بأنه سيعيد النظر في خطة الانسحاب من غزة من جانب واحد ومن دون تفاوض مع الفلسطينيين. إعادة النظر في بنود الخطة ستكون طبعا من سيئ إلى أسوأ. وهذه لعبة إسرائيلية قديمة لجأت إليها مختلف الحكومات حين تكون الإدارات الأميركية مشغولة بالانتخابات الرئاسية أو انتخابات الكونغرس. فتل أبيب تلجأ دائما في هذه اللحظات إلى استخدام نفوذها وممارسة الضغوط لابتزاز المترشحين للرئاسة أو الكونغرس.
تل أبيب دائما تتجه إلى التطرف في الوقت الضائع وتمارس لعبة الاستفادة من الزمن لتحسين مواقعها في السياسة الداخلية الأميركية من خلال التسويف والمماطلة وتقطيع الساعات الأخيرة في كل عهد رئاسي لتكسب المزيد من الدعم والوعود والتغطية الاعلامية لمخالفاتها الثابتة ضد القرارات الدولية.
التطرف هو عمود «إسرائيل» السياسي في وقت لا يلاقي المواجهة المطلوبة عربيا وينال التشجيع الخفي والمعلن من الحكومات الأوروبية أو الإدارة الأميركية. وحين تجد تل ابيب أن خطواتها لا تلاقي الاعتراض الجدي تدفع تطرفها بمزيد من الجرعات لكسب ما تريده، وهذا ما تكرر منذ خمسينات القرن الماضي إلى ايامنا.
المشكلة في قادة الغرب أنهم غير قادرين على قول الحقيقة. فهم يعرفون أن التطرف الصهيوني أسهم مرارا في إثارة الفوضى والحروب في المنطقة. ويدركون أيضا ان مثل هذا التطرف لا يمكن ان يؤدي إلى الاستقرار والسلام. فقادة الغرب يترددون في كشف الحقائق وهم يعلمون أن «إسرائيل» فوتت على المنطقة الكثير من فرص السلام والمبادرات التي اطلقتها الدول العربية في قمم كثيرة وهي كلها في مصلحة التسوية، ولكن تل ابيب كانت تلجأ إلى تعطيل المبادرات العربية وتفوت عليها فرصا مستفيدة من الصمت الأوروبي الأميركي.
قادة الغرب مترددون وأحيانا غير قادرين - لحسابات داخلية كثيرة - على توجيه اللوم لتل ابيب على تفويت الفرص. كذلك قادة الدول العربية غير قادرين أيضا - ولحسابات داخلية كثيرة - على الاستمرار في تقديم التنازلات المجانية واطلاق مبادرات مصيرها الفشل. فالمزاج العربي قد يتغير في أية لحظة. وقادة الدول العربية ليسوا أيضا على استعداد دائم للبحث عن مخارج لمأزق التسوية. فالمزاج الآن ربما يكون في أفضل حالاته لتقبل الدول العربية مبدأ التسوية ولو على حساب الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، ولكن هذا النوع من المزاج السياسي ليس مضمونا. فقادة الدول العربية ليسوا دائما في وضع يسمح لهم بالابقاء على مثل هذا الاستعداد لتفهم المأزق والمساعدة على إخراج التسوية من الظلمة إلى النور.
المشكلة كانت ولاتزال في «إسرائيل» فهي مصيبة برأسها. وهذا يعود إلى أسباب كثيرة لها صلة بالايديولوجية الصهيونية (العنصرية) أو بمواقف دول الغرب (وتحديدا الولايات المتحدة). هذا على مستوى الأسباب القريبة والواضحة. أما على مستوى الأسباب البعيدة والخفية فيمكن إضافة سلسلة من العقد النفسية لها صلة مباشرة بعقدة الخوف، وعقدة الاضطهاد، وعقدة المخاوف المرتبطة بتجربة عيش اليهود كأقليات في أوروبا. وجدار شارون العنصري في الضفة الغربية هو شكل من أشكال عقدة الغيتو (حياة العزلة) والخوف من الآخر مهما بذل الآخر من انفتاح وتسامح واستعداد لنسيان الماضي.
هذه الأسباب البعيدة تفسر إلى حد كبير جنوح «إسرائيل» نحو المزيد من التطرف بذريعة أنها تريد ضمانات. وحين تحصل على ضمانات خطية كما حصل حديثا بين بوش وشارون تطالب بغيرها وتعتبرها غير كافية. وهذه الأسباب البعيدة ايضا توضح لماذا دائما الصورة مقلوبة في نظر الإسرائيليين. فالشر عندهم هو الخير والخير أيضا عندهم هو الشر. وعلى القياس نفسه ينظر الإسرائيليون إلى مفاهيم الحق والعدالة والمساواة، فهي كلها مقلوبة ولا يجدون فيها سوى النقيض.
هذه مشكلة كبيرة وهي تزيد الأزمة تعقيدا لأنها مشكلة لا صلة لها بالواقع بل بالاوهام الايديولوجية والخرافات الموروثة من عهود اللاسامية في أوروبا والمنقولة برا وبحرا وجوا إلى فلسطين و«الشرق الأوسط».
هذا لا يعني أن الأزمة نفسية. ولكن المسألة تصبح مستعصية على الحل عندما تتداخل المخاوف بسلسلة من المفاهيم الغامضة عن السلام والتسوية وتوازن دولة «إسرائيل» نفسها. فهذه الدولة المريضة في هواجسها نقلت مخاطرها إلى المنطقة وباتت في وضع يرتاح حين يعاني الشعب الفلسطيني من الكوارث التي جلبتها إليه، وتضطرب اذا وجدت ان هذا الشعب المقهور والمظلوم يريد الخروج من ظروفه البائسة. خسر شارون معركته الحزبية وحتى لا يخسر مستقبله السياسي وعد الليكود بالمزيد من التطرف ليضمن موقعه في رئاسة الحكومة مستفيدا من النفاق الأميركي. إنها لعبة قديمة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 607 - الثلثاء 04 مايو 2004م الموافق 14 ربيع الاول 1425هـ