هناك أسباب كثيرة لانضمام عشرة بلدان من شرق ووسط وجنوب أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي. لكن بالنسبة إلى ثمان منها فإن الشرط الوحيد كان انهيار النظام السوفياتي والذي كان يتستر تحت اسم النظام الاشتراكي. هذا النظام الذي انهار مثلما تنهار شجرة بقوة الرياح العاتية وتناثرت أغصانها وتبعثرت أوراقها وظهرت مكانها شجيرات صغيرة أطلق عليها الغرب اسم الديمقراطيات الجديدة.
كانت الديمقراطيات الغربية العدو الأساسي للنظام الاشتراكي لكنها لم تكن متفقة فيما بينها على كيفية مواجهة الدول الاشتراكية ونشأت حال توتر دائمة بين الكتلتين الغربية والاشتراكية وكانت السياسات الخارجية لهذه الدول تركز على هذه المنافسة، ثم اعترف الجانبان بوجود حرب باردة دامت أكثر من أربعين عاما انتهت بانهيار جدار برلين وقبله كان الاتحاد السوفياتي نفسه تعرض للانهيار.
الأمر الذي لم تفلح به الأنظمة الاشتراكية التي كتب عليها أن تعمل تحت مظلة الاتحاد السوفياتي في اتباع سياسة عملية. فيما سعى نظام برلين الشرقية على سبيل المثال تحت قيادة ألبريشت ثم خليفته إيريش هونيكر في إقامة قطيعة مع الغرب تمثلت في تشييد جدار برلين منعا لفرار المواطنين الألمان الشرقيين إلى الغرب. في هذا الوقت راحت القيادة الشيوعية في المجر تحت زعامة رئيس الحزب كادار وتحت ضغط المواطنين في العام 1961 تعمل في إقامة صلات مع الغرب. وحصل تطور مماثل في تشيكوسلوفاكيا بعد خمسة عشر عاما على الانتفاضة العمالية في برلين الشرقية ومدن ألمانيّة شرقيّة أخرى واثني عشر عاما على الانتفاضة الشعبية في المجر. حاولت تشيكوسلوفاكيا تحت قيادة رئيس الحزب الشيوعي دوبجيك ونتيجة للضغط الشعبي أن تقيم اتصالات مع الغرب وكان الرئيس السابق فاكلاف هافل رئيسا لاتحاد الكُتّاب التشيكوسلوفاكيين. لكن تحدي النظام الشيوعي انتهى مؤقتا بعد أن نزلت دبابات دول حلف وارسو إلى الشوارع ووضعت نهاية للانتفاضات الشعبية.
في هذا الوقت ساد الاعتقاد عند كثيرين من السياسيين في أوروبا الغربية بأن الاتحاد السوفياتي سيفرض سيطرته على الدوام في مناطق تشكل النصف الكبير من الكرة الأرضية وذلك على العكس من السياسيين الأميركيين الذين حصلوا على الدليل بأن الشيوعية لن تعمر طويلا. بدأت أوروبا الغربية تتبع سياسات على أساس العمر الطويل للنظام الشيوعي. وهكذا جاء السياسي الاشتراكي الديمقراطي الألماني فيلي برانت بفكرة اتباع سياسة الانفتاح على الشرق والتي عرفت باسم أوست بوليتيك وتبعته فرنسا بسياسة مماثلة. هدف هذه السياسة كان قبول الواقع أولا والاعتراف بوجود نظامين في أوروبا. ثانيا السعي إلى قيام علاقات واتصالات إنسانية بين المواطنين في الضفتين الأوروبيتين من دون التشكيك بالحدود المرسومة لدول المعسكر الاشتراكي. وكانت قمة هذه العملية توقيع بلدان المعسكرين الغربي والشرقي اتفاق بشأن الأمن والتعاون في أوروبا بالعاصمة الفنلندية هلسينكي في العام 1975. في اليوم الذي تم فيه توقيع هذا الاتفاق قبل الجميع بالانقسام القائم في أوروبا واتفق المسئولون من شطري أوروبا على التزام سياسة خفض التوتر. على مدى سنوات طويلة ظلت أوروبا المنقسمة ترزح تحت أثر سياسات القوتين العظمتين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وكاد أن يدوم عمر النظام الاشتراكي إلى اليوم لولا مجيء ثلاثة أشخاص إلى مناصب رفيعة، الأمر الذي أسهم لاحقا في تغيير كبير في وجه أوروبا بل غيّر العالم.
في أكتوبر/ تشرين الأول العام 1978، عُيِّن البولندي فوجتيلا في منصب البابا، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1980 انتخب الشعب الأميركي الممثل السينمائي رونالد ريغان رئيسا. كلاهما كانا يجدان النظام السوفياتي شريرا لا يحترم حقوق الإنسان وكرامة الشعوب ولأنهما كانا على يقين بأن النفوذ السوفياتي على الدول المنتمية للمعسكر الاشتراكي لن ينتهي بمحض إرادة القادة السوفيات، فقرر الرجلان أن يسعى كل منهما بالسبل والإمكانات المتوافرة لديه لهدف زوال سلطة الستارة الحديد. دعم البابا انتفاضة بدأتها حركة (تضامن) في مصانع مدينة غدانسك التي قادها ليخ فاليسا الذي أصبح رئيسا لبولندا وفاز بجائزة نوبل للسلام في الوقت استعان ريغان بالتقنية الأميركية لردع السوفيات وسعى إلى العمل ببرنامج حرب النجوم وكان عبارة عن تجهيز صواريخ بإمكانها التصدي لصواريخ نووية مهاجمة تستهدف الأراضي الأميركية.
في الغضون، حصلت تطورات كثيرة في أوروبا وكانت المجر سبّاقة في التقرب من الغرب وهذه المرة بواسطة اتفاق في العام 1981، وانضمت بهدوء إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية. بعد أن سبق وأعرب المواطنون المجريون في العام 1956 عن رغبتهم في الانفصال عن موسكو جاء دور المسئولين السياسيين لتنفيذ هذه الرغبة. في سبتمبر/ أيلول العام 1981، بدأ أعضاء في الحزب الشيوعي المجري بإجراء مباحثات سرية مع كوادر في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بشأن تحقيق المزيد من التقارب بين المجر وأوروبا الغربية وتم إطلاع المستشار الألماني هيلموت شميت على هذه المباحثات التي نتج عنها ظهور ثقة متبادلة بين الجانبين المجري والألماني. أمام هذا التطور وجه المستشار شميت دعوة في العام 1982 إلى الرجل القوي في هنغاريان كدار، لزيارة ألمانيا الغربية. جاء كدار إلى بون وكُله أمل بأن يحصل على دعم من المستشار شميت في التقرب من أوروبا الغربية وكان معنى ذلك التنصل تدريجيا من العلاقة غير المرغوب بها مع موسكو لكن كدار شعر بغضب عارم وهو يسمع كلام شميت الذي رحب من جهة بالتقارب الحاصل على العلاقات مع أوروبا الغربية لكنه حذره من استفزاز الكرملين. بالنسبة إلى المسئول المجري قطع المستشار الألماني الغربي الطريق على بلاده للقفز بقوة نحو المعسكر الغربية وكان شميت حينها يخشى خنق موسكو. لكن المجر لم تشعر بأن موقف شميت يعني نهاية الطريق إلى أوروبا الغربية، فقد تمسك مسئولون في الحزب الشيوعي بخطة التنصل تدريجيا من موسكو واختير اصطفان هورفات سفيرا للمجر في بون وكان هذا عضوا في وفد المباحثات مع ألمانيا بشأن مستقبل علاقات بلاده مع أوروبا الغربية. في أكتوبر العام 1982 انهار الائتلاف الحاكم في بون وخسر شميت منصب المستشارية لصالح المسيحي الديمقراطي هيلموت كول الذي كان ناقدا كبيرا لسياسة برانت بشأن الانفتاح على الشرق وكان تفكيره أقرب لتفكير البابا والرئيس الأميركي ريغان وسعى كول بمؤازرة مستشاره للسياسة الخارجية هورست تلتشيك في مواصلة المفاوضات التي جمدها الاشتراكيون مع المجر.
في السنوات اللاحقة ظهرت مؤشرات في بلدان أخرى تابعة للمعسكر الاشتراكي توضح وجود رغبة لديها في الابتعاد عن موسكو مثلما تم في عهد الرئيس الروماني تشاوشيسكو أو رغبة الشعب في تغيير السلطة مثلما حصل في بولندا، إذ أدت احتجاجات واضرابات حركة (تضامن) في العام 1980 إلى انهيار نظام رئيس الحزب الشيوعي غيريك الذي كان محبوبا من قبل الحكومات الغربية وبلغ نفوذ حركة (تضامن) الوسع حدّا كبيرا أدى في نهاية العام 1981 إلى تغيير السلطة بعد استقالة الرئيس ياروزلسكي الذي صمد نظامه بسبب إعلان حال الطوارئ في البلاد. على رغم كل العواصف التي هزت أوروبا الشرقية في تلك الفترة لم تتأثر ألمانيا الشرقية بها وكذلك المجر.
لكن هنا أيضا تغيرت الأمور بعد أن بلغت لعبة الدومينو نهايتها. في العام 1985 أصبح ميخائيل غورباتشوف أمينا عاما للحزب الشيوعي في موسكو وسارع في العمل بسياسة الانفتاح البرسترويكا وبدأت الحركات الشعبية المناهضة للنظام الشيوعي في الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي تحتج وتطالب بالاستقلال. هذا ما حصل في جمهوريات من استوانيا إلى أوكرانيا. بعد أن أدت العمليات الانتخابية البرلمانية في بولندا والمجر إلى تغيير ديمقراطي للسلطة واتخاذ المجر في سبتمبر العام 1989 قرار فتح الحدود أمام آلاف اللاجئين من ألمانيا الشرقية الذين اعتصموا في مقر سفارة ألمانيا الغربية في بودابست، بدأت نهاية نظام برلين الشرقية وسقوط جدار برلين في نوفمبر من العام المذكور وبدأت عملية سريعة لانهيار الأنظمة الشيوعية. في مارس/ آذار 1990 أعلنت استوانيا وليتوانيا وليتلاند استقلالها على رغم أن حكوماتها الجديدة لم تكن تعرف ما يخبئ لها القدر. بعد حل حلف وارسو الجناح العسكري لدول المعسكر الاشتراكي مثلما الناتو الجناح العسكري لدول المعسكر الغربي، في مطلع ابريل/ نيسان العام 1991، تم تعبيد الطريق أمام الدول الصغيرة في أوروبا الشرقية كي تحصل على حقها في الحصول على حماية الغرب من خلال الانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي
العدد 605 - الأحد 02 مايو 2004م الموافق 12 ربيع الاول 1425هـ