تحتفل الدنيا اليوم بيوم الصحافة العالمي، ونحتفل نحن في البحرين بمعزوفة من معزوفات الزمن القديم. العالم يتذكّر الصحافيين الذين قضوا في المواقع الساخنة فيضيء على قبورهم الشموع، ونحن ننفخ في الرماد لنشعل النيران في القلوب. العالم يراجع نفسه ليصحّح أوضاعه ويطمح إلى تطوير حياته وتجاوز «مستنقعاته»، ونحن نتلفت إلى الخلف ونعيد نشر غسيلنا الذي لم يكن نظيفا فيما مضى، ليحتل مانشيتات الصحف في الأيام الاخيرة، في حنينٍ مرَضي إلى الأيام السود التي دفع الوطن والمواطن ثمنها بالعملة الصعبة جدا، قلقا واضطرابا وسجونا ومنافي وتشويها لسمعة الوطن الذي يعذّب أبناءه. ألهذا تحنّون؟ وإلى مثل هذا تتطلعون؟ ألا بئس الطموح.
ثم يتحدثون عن المؤامرة، وعن «طبخة» الشرق الأوسط الكبير... وعن وحشية الاحتلال الأميركي للعراق... وعلى أجساد الشهداء يرقصون رقصة السامبا، ويعزفون النغم الديمقراطي على طريقة «الليوة»، ويبشرون بموجة الإصلاح التي ستعم الشرق التعيس.
لكن... ألم تقل العرب القدامى ان «الطبع يغلب التطبع»، ومهما حاول الماء الراكد أن يخرج من المستنقع فإنه سرعان ما يعود إليه. هكذا يعلمنا التاريخ، وتدلنا عليه وقائع اليوم الذي يريدونه أسود كالقار. تراهم يترصدون الطرائد، مشرعين أقلامهم كالرماح على طريقة سكان الغابة المتوحشين.
في كل عقدٍ لهم قرابين أسالوا دماءها على عتبات الهيكل المقدس. كل عشر سنين، احسبوها لتتأكدوا بأنفسكم. التهم جاهزة، كالحبال السوداء تلف أعناق الأبرياء. «إما معنا وإما ضدنا»، والويل لمن يفكر بكلمة «لا»...! عند كل منعطف أمني أو غير أمني، سياسي أو غير سياسي، مطلبي أو غير مطلبي تعود حليمة إلى عادتها القديمة، لينزف الوطن. تريدون أن أذكّركم: رأس السنة، المعارض، التجنيس، عجرم، لاتريسا... أيضا!
بالأمس طالبوا بوضع «ميثاق شرف»، والصحافة عندنا اليوم - أصارحكم - بحاجة إلى مثل هذا الميثاق. ليست القضية خاصة بمن يعمل في هذا القطاع الإعلامي، وإنما هي قضية تعني القراء وعامة الناس، فهم المصب الذين تنتهي إليهم كل المادة الصحافية ومنتجها.
لن يكون ثمة اختلاف على مسمى «ميثاق»، ولكن ستختلف الرؤى وتتضارب عند الحديث عن الأولويات. إذا أردتم الاتفاق على ميثاق شرفٍ، فليكن «ميثاق شرف» من أجل الوطن كله، بأن تضعوا مصلحته العليا ومستقبل أجياله فوق كل اعتبار. راعوا الله فيما تكتبون، فكم من الكتابات الصحافية في العهد السابق أنزلت بالوطن وأبنائه أفدح الأضرار والمصائب والمحن.
إن لم يتمكن الصحافي من قول الحق، فليمتنع عن قول الباطل. وإن لم يتمكن من عون المظلوم، فليمتنع عن نصرة الظالم. وإن تعلّل بالعجز عن نشر الحقائق فلا يروّجن الأكاذيب، وكفى بالصحافة لؤما أن تتكلم عن المواطن بلسانها وتنهش لحمه بأسنانها.
على الصحافة أن تتوقف عن لعب دور المدافع الشرس عن مصالح اصحاب الملايين المترفين، ولتنتبه إلى الطبقات الفقيرة والشرائح المسحوقة، التي تزداد رقعتها تمددا واتساعا مع الأيام، بدليل تزايد أعداد الصناديق الخيرية في مختلف مناطق البلاد حتى تجاوزت السبعين، بمعدل صندوق لكل قرية، أو صندوق لكل بضعة آلاف. هذه الفئات هي التي تذهب دائما حطبا للمحرقة، لا يشعر بآهاتها أحد من المتنعمين الكثر في «بلاط صاحبة الجلالة»، والمتقلبين في نعيمها الريّان.
في يوم الصحافة العالمي، أملنا أن تراجع الصحافة دورها، وتفكّر في موقفها، وتحترم عقل القارئ، ولا تعود إلى ممارسة شعوذة سابقة، فالجرح لمّا يندمل، والقلوب مازالت حرى، وعلى الله تسكين النفوس وتطييب الخواطر، مادامت الصحافة قد آثرت لعب دور ناكئ الجراح.
تعالوا أيها الحيارى «إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله»، (آل عمران:64)، وبالوطن الجريح إحسانا..
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 605 - الأحد 02 مايو 2004م الموافق 12 ربيع الاول 1425هـ