طوال المداخلات التي اضطلع بها العقيد القذافي في بروكسل سواء في المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس المفوضية الأوروبية، رومانو برودي، أو أمام البرلمان البلجيكي كان سفير ليبيا في بروكسل ومهندس الزيارة حامد الحضيري، يضع يده على قلبه خوفا من خروج مفاجئ على النصوص المتفق عليها سلفا والتي شكلت أساسا لاستقبال «قائد الثورة» في معقل الاتحاد الأوروبي. باختصار، يمكن القول إن المسئولين الأوروبيين غضوا النظر كليا تقريبا عما وصفه بعضهم «بضرورات المسرحية، وديكورها» على غرار نصب الخيمة والحركات الملفتة المصطنعة «للراهبات الثوريات» أي حرسه النسائي - الذي خالف برودي البروتوكول بالسماح لهن بلعب الدور المطلوب - واستبدال القلم الأخضر بقلم الريشة التقليدية لتوقيع سجل البرلمان، أو حتى معاودته لنغمة «التمثيل تدجيل» ومخاطبته النواب بالقول: «إن يوما سيأتي يجلس فيه الشعب البلجيكي على الكراسي التي تحتلونها الآن»، ما أثار همهمات وضحكات عالية بينهم.
على أية حال، فالأهم بنظر الأوروبيين هو عودة شركاتهم بقوة للسوق الليبية واجتزاء حصته من قطاع النفط الليبي الذي بحسب رأي رومانو بردوي وتياره «اللاتيني» كان سيُقدم على طبق من فضة للشركات الأميركية فيما لو لم تتم هذه المبادرة بدعوة العقيد القذافي في الوقت المناسب.
ذلك، بغض النظر عن الارهاصات التي كان من المتوقع سلفا أن ترافقها، ما يعني أن الآذان كانت مشرعة للسماع من الزعيم الليبي قوله: «إن أوروبا هي قلب العالم وبروكسل قلب أوروبا، وعلى هذه الأخيرة أن تعي قوتها وعليها التأثير في الحوادث لأن تخليها عن هذا الدور يسبب الاختلال على الصعيد العالمي»، ما فهمه المحللون السياسيون في العاصمة البلجيكية أنه يعبر عن التخوف الدائم وعدم الثقة من نوايا واشنطن المستقبلية تجاه نظامه بغض النظر عن الخطوات الانتقامية التي تمت في المرحلة الأخيرة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان المهم برأي الأوروبيين الحصول على ضمانات شخصية تؤكد حصول الشركات الأوروبية على معاملة خاصة من الآن وصاعدا وتسهيل دخولها السوق الليبية من دون عوائق تذكر، وخصوصا اذا ما التزمت بروكسل بتسريع انضمام الجماهيرية لصيغة برشلونة عبر توقيع اتفاق الشراكة اليورو - متوسطية، وذلك على غرار الدول العربية المتوسطية الأخرى.
أما فيما يتعلق بالتصريحات التي فسرتها بروكسل بأنها للاستهلاك الداخلي الليبي مثل قوله في البرلمان البلجيكي: «لا تضطرونا للعودة الى ما كنا نفعله سابقا»، من دون تحديد ذلك، فإن المسئولين الأوروبيين فضلوا صم آذانهم وتمرير الأمور بسلام. فهؤلاء كانوا على ما يبدو مطلعين مسبقا على حديث القذافي قبل يومين من وصوله بلجيكا، أمام الملتقى الـ 25 لأعضاء حركة اللجان الثورية، والذي اعاد التأكيد فيه أن «الديمقراطية الشعبية المباشرة لا تطبق إلا في ليبيا»، ناسفا بذلك التصريحات التي صدرت سواء عن نجله سيف الاسلام أو رئيس الوزراء شكري غانم في مسألة الديمقراطية والتعددية المنشودة، ما يؤكد أن هذا التنظيم لايزال فاعلا ولا يمكن تجاوزه بسهولة حتى ولو انتقد «القائد» تقصيره في أداء بعض من «واجباته الثورية». فعودة الأخير للحديث عن المخاطر التي يشكلها «الظلاميون والزنادقة» في إشارة للاسلاميين هو الاقرار بالدور الاساسي الذي لاتزال تلعبه هذه اللجان في تبديد المخاطر وحماية النظام، ما فهمه الأوروبيون جيدا وبدأوا بحسب بعض مصادرهم، ببناء حساباتهم على أساس هذا الواقع
العدد 604 - السبت 01 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الاول 1425هـ