التهديدات الإسرائيلية باللجوء إلى الخيار العسكري ضد قطاع غزة ترافقت مع سلسلة الاقتحامات والاعتقالات والاغتيالات التي نفذتها حكومة تل أبيب في القدس والضفة الغربية. وجاءت التهديدات تعزز سياسة الاستيطان وهدم المنازل وتجريف الأحياء العربية والأراضي الزراعية في مناطق الاحتلال، ما يؤشر إلى عزم تيار أقصى التطرف الذي يقوده الثنائي نتنياهو - ليبرمان على المضي في استراتيجية المواجهة وتحدي القرارات والضغوط الدولية.

السؤال، هل تستطيع حكومة تل أبيب السير في هذا الاتجاه دفعة واحدة وتنجح في كسر كل التوازنات لمصلحتها، أم أنها ستضطر إلى مراجعة حساباتها وإعادة قراءة المتغيرات التي أخذت تنمو في داخلها وعلى ضفافها؟

الاحتمال المرجح أن «إسرائيل» غير قادرة على مواصلة سياستها من دون كلفة عالية ستضغط عليها وتدفعها إلى الاستدارة. فالمشروع الذي طرحته حكومة الثنائي المتطرف غير قابل للتحقق من دون ردة فعل من مختلف القوى الفلسطينية والعربية والدولية في اعتبار أن استراتيجية الحرب تحتاج إلى موازين تبدو حتى الآن غير متوافرة.

تل أبيب ترفع الآن سلسلة نقاط في برنامج حكومي لا يلقى ذلك الانتباه أو الاهتمام من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. كذلك يلقى الاعتراض من روسيا الاتحادية والصين لكونه يعتمد على خطة تريد كسب كل النقاط من دون مقابل سياسي.

الحكومة الإسرائيلية تطالب أميركا وأوروبا وموسكو وبكين بالوقوف معها في مواجهة ما تدعيه من مخاطر أمنية متأتية من البرنامج النووي الإيراني وفي الآن ترفض تقديم أبسط التنازلات لتغطية خطة التصعيد الدولي على طهران. وتل أبيب تتحرك دبلوماسيا وتضغط إعلاميا لتوجيه ضربة عسكرية عاجلة ضد المواقع النووية الإيرانية في وقت ترفض الاستجابة للمطالب الدولية وما نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن بشأن الانسحاب من الأراضي المحتلة.

هذا العناد الإسرائيلي بدأ يواجه اعتراضات ناعمة وخجولة من دول الغرب بسبب تلك السياسة التي تعتمد استراتيجية عنيفة لا يمكن أن تتقبلها العواصم الأوروبية والأميركية. فالاستراتيجية الإسرائيلية غير منطقية في مضمونها أو شكل تعاملها مع دول تعتبر منحازة لتل أبيب وصديقة لها وحامية لمصالحها وأمنها. ومثل هذه السياسة لا يمكن لها أن تنجح على كل الخطوط والمسارات، إلا إذا وافقت تل أبيب واقتنعت أنها لابد أن تقدم البديل (التعويض) مقابل طلباتها الكثيرة والمكلفة.

حكومة تل أبيب كما يبدو وصلت إلى طور عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات. والعجز السياسي عن التأقلم مع المتحولات يشبه ذلك «القصور العقلي» على الاندماج مع المحيط والبيئات على اختلافها ما يدفع أحيانا إلى العزلة أو المغامرة أو جنون العظمة.

حال «إسرائيل» الآن تشبه مرضى القصور العقلي وما ينتجه من ردود فعل غير متوقعة بسبب عدم القدرة على تقبل الجديد واستيعابه والتعامل معه من خلال مراجعة الحسابات وإعادة قراءة المعطيات التي طرأت على معادلة القوة. تل أبيب غير مقتنعة حتى الآن أن موازين القوى لم تعد كما كانت عليه في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، كما أنها لم تستوعب المستجدات التي دخلت على خط توازن القوة، وأنها لم تعد تمتلك خيارات مفتوحة تسمح لها بالتصرف كما تريد من دون مراقبة أو محاسبة أو ردة فعل مؤذية.

قصور حكومة الثنائي المتطرف وضعفها العقلي في التعامل مع المتغيرات دفعها إلى تبني سياسة استفزازية وغير منطقية وبالتالي غير مقبولة حتى من أقرب الحلفاء والأصدقاء. فهذه الحكومة تريد كل شيء وتعتبر أن دول العالم مجرد أدوات أو معدات عسكرية جاهزة لتنفيذ رغبات استراتيجية بدأت تتآكل زمنيا وتفقد مع الوقت حيويتها وقدراتها الاستثنائية.

حكومة تل أبيب دخلت الآن مرحلة الاستنزاف وخسرت الكثير من أوراق القوة وبدأت تنكشف على أصعدة مختلفة. فهي تهدد بالحرب واللجوء إلى القوة وترفض المسالمة والمصافحة وتصر على سياسة الاستيطان والحل العسكري من جهة وهي تدعي الخوف على أمنها الاستراتيجي وتطالب الغرب إنقاذها وحمايتها والدفاع عنها من جهة أخرى. وهذا التناقض في المنطق يفسر ذلك الاعوجاج في سياسة التعامل مع المحيط والمستجدات والمتغيرات. فالخائف فعلا لا يطلب الحرب وإنما يلجأ إلى الموادعة ليضمن جانبه من هزات وارتدادات. ومن يدعي المسالمة لا يتخذ إجراءات وتدابير تدل على نزعة «جنون العظمة» وما ينتجه العجز الفكري من سلوكيات وتصرفات عنيفة ومتطرفة.

عدم استيعاب حكومة تل أبيب للمستجدات والمتغيرات مسألة خطيرة في النهاية. فالقصور يدفع نحو الانكفاء والعزلة والانغلاق وعدم الاستعداد للاستماع والمشاهدة أو يشجع على الغضب والجنون واللجوء نحو المغامرة ردا على ضعف القدرة على التفهم والتكيف والتأقلم. والخطير في هذه المعضلة البنيوية يتمثل في جانب احتمال حصول تحركات غير مدروسة أو متوقعة من نزعة «جنون العظمة».

«إسرائيل» خسرت الكثير من الأوراق ولكنها لاتزال تمتلك عناصر قوة تشجعها على الاستمرار في المراهنة على استراتيجية الحرب والحل العسكري للتهرب من الوقائع الميدانية وما تفترضه المتغيرات من مراجعة للحسابات وإعادة قراءة للمستجدات.

التهديدات الإسرائيلية تحتمل الكثير من التفسيرات منها المدروس ومنها غير المتوقع، ولكنها في محصلتها النهائية تكشف عن قصور في تفهم المتحولات وضعف الاستعداد على التكيف مع شروط الواقع ومتطلباته. والأمر الأخير قد يفتح الباب أمام مغامرة غير محسوبة لا في مقدماتها ولا في نتائجها.