أفرزت نتائج الانتخابات العراقية واقعا مُغايرا. بعض الأحزاب المنتفخة بدت أنحل من سقيم مُتهالك. وقد تبدّى لها جيدا أن مرآتها قبل الانتخابات كانت مُلوّثة بسخام أسود، فلم تعد قادرة على عكس حجم هِزال ناظرها (العددي) بدقّة.
ينطبق ذلك على كثير من الأحزاب والحركات السياسية والدينية العراقية التي كانت في الأصل عرجاء، إلاّ أنه صار فاقعا في أحوال ما اعتُقِدَ أنها من السِّمان، وفي طليعتهم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي بزعامة سماحة السيد عمّار الحكيم.
فيما خصّ المجلس الأعلى فقد تعاضد الأخير مع أغلبية القوى الشيعية داخل الائتلاف الوطني العراقي. كان معه التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وتيار الإصلاح بزعامة إبراهيم الجعفري، وحزب الدعوة (تنظيم العراق) بزعامة عبد الكريم العنزي، والمؤتمر الوطني العراقية بزعامة أحمد الجلبي، وغيرها من القوى.
مقاعد الائتلاف الكُلّيّة بلغت 71 مقعدا فقط!. أربعون مقعدا منها حَصَدَها التيار الصدري لوحده، وما بين خمسة عشر وثمانية عشر مقعدا منها أخذها المجلس الأعلى والبقيّة الباقية تناثرت على البطون الرخوة في الائتلاف. عزّزَ من ذلك الضعف سقوط جزء مهم من كاريزما الائتلاف بعد سقوط مُوفّق الربيعي وقاسم داوود والشريف علي بن الحسين.
في تشريح ذلك الإشكال، ينبغي استثناء أمرين لطالما زُجَّ بهما في التحليلات السياسية:
الأمر الأول: وهو إرجاع فشل المجلس الأعلى إلى ارتباطه بطهران. وهو أمر غير دقيق البتّة. فنوري المالكي هو أيضا مُرتبط بإيران بشكل عضوي، بل إن طائرته الخاصّة هي إيرانية، حاله في ذلك حال آخرين في المجلس، لكنه حاز على 89 مقعدا.
والتيار الصدري هو الآخر مرتبط بإيران، بل إن زعيمه مقتدى الصّدر يدرس على أرضها بعناية خاصّة من عليّة القوم هناك، ولديه تمثيل ومكتب سياسي في العاصمة طهران. وحتى زيارته للعاصمة التركية في مايو الماضي تمّت بترتيب سياسي إيراني، لكنه أيضا حقّق مكاسب انتخابية عالية جدا. فالقضية إذا ليست كذلك.
الأمر الثاني: هو ربط خسارة المجلس (العدديّة) بخسارته (السياسية) وهو أيضا تحليل غير صائب. فالمجلس لَمْ يَنَل أصواتا بالقدر الذي يُوازي اسمه وتاريخه، لكن غطاءه السياسي وتفويضاته لا زالت قائمة، ولا يُمكن تجاوزها مُطلقا. فهو من جهة يمتلك من الإمكانيات المادية والسياسية ما يجعله مُعوّضا لها في خسارته العددية. ومن جهة أخرى فقد حوّلته أقلّيّته في الانتخابات إلى بيضة القبّان في تشكيلة الحكومة المقبلة.
هذان المُحدّدان يجب أن يُلتَفَت إليهما جيدا في عملية تقييم النتائج الانتخابية التي خَسِرَ فيها المجلس الأعلى بقوة. لكن هناك ملاحظات عدّة يُمكن ذكرها في عملية التقييم، هي بالأساس ليست أسبابا بقدر ما هي ملاحظات أساسية قد تكون مدخلا لفهم الكثير من الأمور، قد نتحدث عنها لاحقا:
أولا: إن المجلس الأعلى قد تحوّل ومنذ تأسيسه إلى أحد البيوتات السياسية التي تُرعَى وتعتمد بشكل أساسي على العُمق العائلي لآل الحكيم. وبالتالي فإن اغتيال آية الله السيد محمد باقر الحكيم في أغسطس/ أب من العام 2003 ومجيء أخيه الأصغر (والوحيد) السيد عبد العزيز الحكيم إلى رئاسة المجلس قد أثّر بشكل كبير على صورة المجلس.
فالمرحوم السيد عبد العزيز الحكيم كآخر أنجال الإمام الحكيم (قده) لم يكن قادرا على ملأ الفراغ الذي خلّفه غياب أخيه، ولا قادرا على معالجة القضايا المختلفة من خلال حضور سياسي جامع، سواء على مستوى العراق أو أحزابه، كما أنه لم يكن أخّاذا في تصريحاته الإعلامية التي تُعتبر أهم وسائل السطوة السياسية.
ثانيا: باعتقادي أن ضعف المجلس الأعلى لم يكن وليد اللحظة، وإنما يرجع إلى ما بعد نهاية العام 2003. ولم تكُن قوّته في انتخابات العامين 2004 و2005 نابعة من قُدرات ذاتية، بقدر ما هي اعتماد شبه كلّي على أمور أخرى تتعلّق بالقائمة الانتخابية المُغلقة، والتكتّل على أسس طائفية بشكل مُحكَم، وغياب المُكوّن السُّنّي بقوة عن الانتخابات.
كما أن تجيير دور المرجعية الدينية، وبالتحديد غطاء المرجع الأعلى السيد السيستاني، وتغطية الحملات الانتخابية (للائتلاف المُوحّد حينها) قد كوّن رافعة انتخابية غير عادية في استمالة آراء الناخبين، الأمر الذي أثّر على نتائج المجلس الأعلى حاله في ذلك حال كافّة القوى السياسية المُؤتلفة.
ثالثا: إن كثيرا من الأحزاب والحركات السياسية عادة ما تجفل كالحصان في أحداث مُعيّنة تُؤثّر على سُمعتها وصدقيّـها بشكل كبير، كما جرى للتيار الثالث (تكتّل شيعي) في لبنان بعد مقابلة السيد حسن الأمين مع الإعلامي زاهي وهبة في برنامج تلفزيوني على تلفزيون المستقبل.
وربما كانت حادثة سرقة مبلغ ستة ملايين دولار من بنك الرافدين في الكرّادة الشرقيّة (معقل المجلس الأعلى) ومقتل ثمانية من حرّاس البنك هي الحادثة الأهم في هذا المجال، والتي ألقت بظلالها الكثيفة على صورة المجلس.
فقد كشفت التحقيقات والتحريات أن أبرز المتورّطين في العملية هم ضابط برتبة نقيب في الحرس الخاص بنائب رئيس الجمهورية وعضو المجلس الأعلى عادل عبد المهدي ومعه عدد من المعاونين الأمنيين، وأن المبلغ المُسترجع قد عُثِر عليه في مقر صحيفة العدالة التابعة للمجلس.
ورغم أن عبد المهدي قد تبرأ من القَتَلَة، وأوعز إلى فوج الحماية الأول التابع لرئاسة الجمهورية الذي خَرَجَ منه الجناة للتعاون مع الوحدات والألوية الرئاسية والمركز الأمني ومجلس القضاء ووزراء الداخلية والمالية والدفاع والأمن الوطني وقوات فرض القانون لمعالجة الأمر إلاّ أن الأمر قد حصل وزُجّ اسم الرجل فيه وبالتالي اسم المجلس الأعلى، وبالتالي أثّر ذلك بشكل غير عادي على سُمعة المجلس ومنتسبيه.
هذه الملاحظات، وكما قلت ليس بالضرورة عدّها أسبابا بقدر ما هي نقاط أوّليّة قد تضبط عملية التقييم الخاص بالمجلس الأعلى. وربما تدفع كلّ هذه الأمور بشورى المجلس إلى إعادة النظر في الكثير من سياساته وخطابه الإعلامي خلال المرحلة القادمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2766 - الجمعة 02 أبريل 2010م الموافق 17 ربيع الثاني 1431هـ
آسف
الآن تأكدت انسحب منه لصالح الإئتلاف الوطني...
صباح الخير أيها الكاتب
عذرا ولكن قاسم داوود أحد أعمدة أئتلاف دولة القانون؟؟؟!
رحمه الله
نعم لو كان الشهيد سماحة السيد محمد باقر الحكيم موجود لكان الوضع مختلف
تحليل
اشكر الكاتب على هذا التحليل