انسحاب القوى السياسية من معركة الرئاسة في السودان لا يؤدي إلى فوز الرئيس عمر البشير بالانتخابات فقط، وإنما يعرض البلاد إلى انهيار التوازن بين الأقاليم ويدفع باتجاه الفوضى وعدم الاستقرار أيضا. فالسودان بعد يوم 11 أبريل/ نيسان الجاري يرجح أن يدخل في قنوات تزعزع وحدته السياسية التي تعتبر حتى الآن هي آخر مشهد في وحدة البلاد بعد حالات تفكك طاولت مختلف الحقول الأمنية والاقتصادية والثقافية.
السودان فعليا تشرذم إلى وحدات مناطقية (أقواميه، ولونية، ودينية، ولغوية) منذ فترة حين أخذت الأقاليم الجغرافية تعيد تأسيس هويات محلية تعتمد على عصبيات ضيقة تعارض فكرة الدولة «الوطنية» أو حتى الاتحاد الفيدرالي.هذا التفسخ بدأ الآن يتقدم إلى الوراء ويتصاعد إلى قمة الهرم السياسي باتجاه يؤشر إلى احتمال غياب السودان في صورته الحاضرة عن الخريطة ومعالمها الحدودية.
الوحدة السياسية وهي الشكل الأخير من خريطة السودان الراهنة تبدو هي أيضا مهددة بالانفراط في حال تواصل التنابذ بين الأقاليم واستمرت عملية الدفع نحو الانقسام وانفصال الجنوب بعد عام من الآن. فالوقائع الميدانية بدأت ترجح نمو قوة التيار الداعي إلى فصل الجنوب عن الشمال لدواعٍ اثنية ولونية وعقائدية ولغوية وثقافية، ما ينذر باحتمال انفتاح الأزمة وانكشاف خريطة السودان أمام سلسلة ارتدادات قد تعيد تشكيل هوية البلاد وتوزيعها على أقاليم تتنافس في إطار هيكلي غير قادر على ضبط الوحدة والاستقرار.
حال السودان تشبه الكثير من النماذج العربية والإسلامية التي تتعرض بدورها إلى اهتزازات تنشر الفوضى وتولد التطرف وتطلق شرارات لا تتردد في الدعوة للانفصال والتقسيم. اليمن يمر الآن في تجربة مماثلة تهدد بعزل الجنوب عن الشمال. العراق بدوره يمر في طور انشطاري يرسم من داخله خرائط سياسية تتألف من مجموعات متجانسة أقواميا أو مذهبيا. باكستان أيضا ليست بعيدة عن الصورة السودانية فهي معرضة إلى تفسخات أقواميه وقبائلية تطمح إلى ترسيم خريطة حدود تعزل الأقاليم عن بعضها. وأفغانستان التي تعرضت إلى غزوات خارجية خلال العقود الثلاثة الماضية تشهد نوعا من الانفكاك القبائلي الأقوامي بين البشتون والبلوش من جهة والطاجيك والأوزبك من جهة أخرى.
حالات كثيرة يمكن توصيفها ومقاربتها من المشاهد السودانية واليمنية والعراقية والباكستانية والأفغانية، وهي في مجموعها تؤشر إلى أزمة «الديمقراطية» في بلدان متخلفة اجتماعيا وغير موحدة عصبيا. ومأزق «الديمقراطية» في هذه البلدان كشف بسرعة معضلة «الدولة» في جغرافيات سياسية تعاني من تكاثر التضاريس الديموغرافية وتنوع هوياتها وتوزعها الواقعي على ولاءات وانتماءات غير متجانسة في تكوينها التاريخي والثقافي.
مشكلة الوحدات الجغرافية وما يتفرع عنها من اضطرابات تنشر الفوضى والعنف وترسم خطوط الانعزال والتقوقع، في فترة أخذت دول العالم تتقارب في منظوماتها الاقتصادية، تطرح فعلا أسئلة لها صلة بالحاضر والمستقبل. فالانفصال ليس حلا ويشبه في مفعوله الميداني الوحدة الفاشلة أو الضعيفة وغير القادرة على ضمان التوازن بين المركز والأطراف والهوامش. والديمقراطية أيضا ليست حلا في بلدان مركبة من عصبيات وهويات ضيقة وهي أحيانا تتحول إلى مناسبة للانشطار والانفصال والانكفاء كما هو حال الديكتاتوريات وما تنتجه من فضاءات تشجع على العنف والتطرف والانقسام.
كل الحلول كما تبدو وقائع الأمور متجهة نحو أبواب منغلقة تعطل مسار التطور التاريخي بسبب عدم انفتاح القنوات أمام الاندماج والتوحد على قاعدة اجتماعية واقتصادية وثقافية تهذب الاختلاف وتطوع النتوءات التي تمنع التجانس والائتلاف. وهذا الانغلاق أعطى فرصة للدول الكبرى والقوى صاحبة النفوذ الإقليمي على النمو والتدخل في شئون العصبيات والهويات واستخدامها لغايات ليست بالضرورة تلبي حاجات التكتلات البشرية ومتطلباتها الذاتية.
التدخل الخارجي بدوره لا يساعد أيضا على إعطاء فرصة للقوى الطامحة للحرية والاستقلال والعدالة أن تأخذ نصيبها من المعروض والمطروح لأن مسار التحولات محكوم في النهاية بمدى نسبة التطور والتجانس والتماسك الذي نجحت الجماعات الأهلية في إنجازه وتحقيقه (مثال العراق ونموذج أفغانستان).
كل هذا التوصيف يؤكد في النهاية على مسألة وهي أن المشكلة ليست في الشعارات والكلمات وإنما في الواقع وتخلف التطور وعدم قدرة المجتمع على الاستجابة للتحديات في عصر التنافس والمزاحمة. الوحدة ليست حلا كذلك الانفصال. الديموقراطية ليست وصفة نهائية وهي تشبه الديكتاتورية في علاجها لمجتمعات متشرذمة وغير جاهزة تاريخيا للاندماج والانصهار في بيئة ثقافية واحدة كما هو حال السودان الآن.
مصلحة أهل هذا البلد الغني والمترامي الأطراف تتمثل في صيانة الوحدة والثروة حتى يستطيع أن يلعب دوره التاريخي في جغرافيته السياسية، ولكن الوقائع تؤشر إلى تراجع التجانس والانسجام ونمو حالات الانعزال والانكفاء والانقسام، الأمر الذي يهدد المصلحة العامة بالارتداد والانهيار والانشطار إلى كانتونات (وحدات ذاتية مستقلة) ستلحق الضرر الكبير ليس فقط ضد المشترك الإنساني وإنما أيضا ضد الخصوصيات والهويات الصغيرة والعصبيات الضيقة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2766 - الجمعة 02 أبريل 2010م الموافق 17 ربيع الثاني 1431هـ
دول فاشله
الوضع في السودان والدول العربيه والاسلاميه مدعاة للضحك..السودان والدول العربيه والاسلاميه ليست نموذج لديمقراطيات الفاشله بل هي في الاساس دول فاشله من أقصاها إلى أقصاها..