دخلت أوروبا الآن القرن الثامن عشر وتحولت النخبة إلى قوة دينامية معاصرة تلعب دورها الخاص في التأثير على السلطة وتغيير سياساتها أحيانا وإقناع رجال الدولة (البيروقراطية) أحيانا أخرى باتخاذ إجراءات قانونية تعود بالنفع على المواطنين.
في بريطانيا ظهر تيار من المفكرين والعلماء والفلاسفة اشتغل في مختلف حقول المعرفة. نيوتن ساهم في تطوير نظريات فيزيائية مستخدما المنهج الرياضي في تفسير طبيعة المكان والزمان. جون تولاند (1670-1721) اعتمد في فلسفته على المذهب المادي (الطبيعي) ورد على سبينوزا ودحض نظرية المادة كما تصورها ديكارت. لورد شفتسبري (1671-1713) حاول تبديد مقولات هوبس ولوك بشأن العقل وذهب إلى تنميط غريزة الإنسان خلقيا واجتماعيا، معتبرا أن حال الإنسان الاجتماعية طبيعية وعفوية. جورج باركلي (1685-1753) حاول انطلاقا من نزعة دينية (رجل دين) أن يرد على أصحاب المذهب المادي (الحسي) الذي ينكر الخالق وقام بتأسيس مدارس وجمعيات خيرية لمساعدة المحتاجين وانتقد هوبس ولوك وديكارت وسبينوزا بسبب قولهم بوجود مادة يعترفون أنهم لا يدركونها.
تشبه نظريات باركلي عن اللامادة فلسفة جوزيف باتلر (1692-1752) الذي حاول إعادة الاعتبار للفلسفة الأخلاقية انطلاقا من نزعة دينية مثالية (راعي كنيسة دورهام) اجتهدت في تفنيد تلك الآراء المادية التي انتشرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر. والأمر نفسه أقدم عليه فرنسيس هاتشيسون (1694-1747) حين نشر مجموعة كتب عن الفضيلة والأخلاق محاولا ترتيب وشرح أفكار اللورد شفتسبري ونشرها بعد تعيينه أستاذا في جامعة غلاسكو في العام 1729.
الصراع بين المذهبين المثالي والمادي لم يقتصر على بريطانيا وإنما أخذ بعده القاري بسبب نمو حاجات بدأت تؤثر على وعي الإنسان وأسلوب معاشه وتعامله اليومي مع الكنيسة. والنقاش الذي أنتجته بريطانيا في القرن الثامن عشر ساهم في تكوين تيارات متعارضة في توجهاتها تجمع بين المثالية والاقتصادية أو بين الفضيلة والمنفعة أو بين الأخلاق (الطوباوية) والأفعال الاجتماعية للإنسان. ديفيد هارتلي (1704-1757) الذي تأثر بنظريات نيوتن وأفكار لوك الليبرالية أبدى في الآن إعجابه بآراء تولاند الذي يصنف عادة من أوائل دعاة المادية في بريطانيا. وتوماس ريد (1710-1796) اتخذ الموقف المضاد حين اختار لنفسه مهمة الدفاع عن الأخلاق والدين ودعوة الإنسان للرجوع إلى الضمير وعاطفته الطبيعية. أما آدم سميث (1723-1790) الذي درس في جامعة غلاسكو وأخذ من هاتشيسون فلسفته الأخلاقية اتجه نحو الاقتصاد محاولا الربط بين آليات الطبيعة وآليات السوق. وأدى كتاب سميث (ثروة الأمم) في مجال دراسته للشعوب وثرواتها ومصادرها إلى تأسيس علم «الاقتصاد السياسي» يعتمد قانون المنفعة بصفته آلة طبيعية تتكفل بتنظيم الشئون الاجتماعية. ويعتبر سميث من أوائل فلاسفة اقتصاد السوق حين رفض تدخل الدولة في قانون العرض والطلب حتى لا تعطل منطق تقسيم العمل الذي يعتمد على الكفاءات لا المساعدات. وأدت نظريات سميث إلى تكوين فلسفة للرأسمالية المعاصرة أخذت تتطور تحت مظلة الاقتصاد الحر وحرية السوق وترك الطبيعة تتكفل بتصحيح نفسها آليا من دون تدخل من الدولة.
كل هذه الاتجاهات والاجتهادات على أنواعها المادية والمثالية، الأفلاطونية والأرسطية، الديكارتيه والهوبسية وغيرها من القراءات والتحليلات والمراجعات اندفعت في سياقات متعارضة للرد على تلك التحديات التي أخذت تجرف شخصية أوروبا القديمة وتعيد تشكيلها من جديد. فالقارة التي مرّت طوال قرون بفترات من البرودة والهدوء والركود والتكرار والجفاف دخلت فجأة عصر الانقلاب الدائم على الذات وبدأت تضخ عشرات العلماء والفلاسفة ورجال الدولة وأصحاب النظريات العلمية والاكتشافات والاختراعات إلى السوق لمواكبة التحولات والرد عليها والاستجابة لها. وشكلت هذه الحيوية نقطة قوة أعطت المزيد من الزخم لمشروع نهضة بدأ يتأسس من الجذور.
لم تقتصر الحيوية على بريطانيا في اعتبار أن الأنشطة الناجمة عن الفعل الإنساني تشابهت في ردة فعلها العقلية والنفسية على ما تشهده القارة الأوروبية من تحولات ساهمت في زعزعة قناعات مألوفة ومتوارثة منذ مئات السنين. فرنسا جاء دورها القيادي بعد بريطانيا ولعبت النخبة منذ مطلع القرن الثامن عشر دورها في تشكيل تيارات تراوحت بين الدعوة للعودة إلى الأخلاق والفضيلة وبين دعوات أخذت تروّج للثورة والإطاحة بالنظام الملكي - الأرستقراطي المتحالف مع الكنيسة.
تأثر الفلاسفة والعلماء الفرنسيون بداية بالنخبة الإنكليزية - السكوتلندية وأخذوا عنهم الكثير من أفكارهم ووجهات نظرهم الداعية للحرية والدستور والحدّ من صلاحيات السلطة المطلقة. حتى رجال الدين في الكنيسة الفرنسية تأثروا بأفكار نخبة تلك الجزيرة المجاورة. القسيس كوندياك (1715-1780) مثلا اعتنق مذهب لوك الحسي واشتغل عليه وعارضه أحيانا وصولا إلى القول إن الإحساس الظاهري «يكفي لتوليد كل القوى النفسية». فالميول برأيه تصدر عن الانفعالات. فولتير (1694-1778) أقام في إنكلترا لمدة ثلاث سنوات ودرس هناك الفلسفة واطلع على كتابات بيكون ولوك ونيوتن واعتمد المذهب التجريبي في فلسفته. ديدرو (1713-1784) بدأ اهتمامه بالفلسفة من خلال ترجمته عن الإنكليزية كتابات المفكرين والفلاسفة والعلماء متأثرا بالموسوعة البريطانية عن الفنون والعلوم التي ظهرت في العام 1728 فقرر أن يعمل على إنتاج موسوعة فرنسية موازية في العام 1746.
شكلت الموسوعة الفرنسية نقطة تحول في تاريخ الفكر الأوروبي لأنها جمعت كبار العلماء والفلاسفة والشعراء في دائرة مشتركة للإشراف على إصدار مجلداتها بعد أن انضم إلى فريق ديدرو شلة من الأصحاب على رأسها فولتير وجان جاك روسو والعالم الرياضي وعضو أكاديمية العلوم دالاميير (1717-1783). ونجح الفريق في إصدار المجلد الأول في العام 1751 واستمرت تصدر إلى أن اكتملت اعدادها في العام 1772 بعد أن بلغ عددها 17 مجلدا.
استغرق العمل في الموسوعة الفرنسية 21 عاما ونجحت في استقطاب كبار الأكاديميين والعاملين في مجالات الفكر والاقتصاد والسياسة والفلسفة والدين. هلفسيوس (1715-1771) مثلا كتب فيها وهو من دعاة الفكر المادي والمذهب النفعي، ودولباك (1723-1789) وهو ألماني عاش في فرنسا ويعتبر من دعاة الفلسفة المادية أيضا، وغيرهما من أصحاب المقالات التي حملت معلومات عشوائية عن مختلف العلوم والفنون انطلاقا من توجهات فلسفية متضاربة تعتمد منهج الشك في التعامل مع القضايا الإنسانية والإيمانية والأخلاقية.
أهمية الموسوعة توقيت صدورها الزمني. فهي اكتسحت السوق عشية الثورة الفرنسية ولعبت مقالاتها دورا في تنوير الكثير من القضايا التي كان يحتاجها القارئ للإجابة عن أسئلته الحائرة بشأن الدين والكنيسة والسلطة والطبيعة والإنسان. وبسبب موقع الموسوعة الخاص يرى الكثير من المتابعين أنها شكلت خطوة تمهيدية لانفجار الثورة وإعلان وثيقة حقوق الإنسان على رغم أن كل كتابها رحلوا قبل حصول الثورة بسنوات أو خلال السنة نفسها أو بعد سنة من قيامها. والربط بين الموسوعة والثورة الفرنسية ليس مبالغة باعتبار أن رموز الانتفاضة وقادتها تأثروا بفلاسفة الموسوعة وأخذوا من مقالاتهم المتناقضة الكثير من العناوين في خطاباتهم الحماسية لتحريك الجماهير.
الحدث الفرنسي الذي استقطب اهتمام أوروبا والعالم لم يحصل من فراغ وإنما جاء بناء على المعطيات الاجتماعية للتحولات التي شهدتها فرنسا خلال القرون الثلاثة الماضية. كذلك بسبب تأثر نخبتها بالثورة الأميركية (وثيقة الاستقلال والدستور) وقبلها بالثورة الجمهورية في بريطانيا التي قادها اوليفر كرومويل ثم عادت وانتكست لتتحول إلى ملكية دستورية.
الثورة الفرنسية (1789) هي نتاج تحولات قارية ودولية اجتمعت فروعها وتوحدت في الداخل الأوروبي. فهناك العامل الأميركي، وهناك الدور الإنكليزي (البريطاني لاحقا)، وهناك التفاعلات المحلية التي تشكلت منها مدارس فلسفية اهتمت بالقانون والأدب والشعر والمسرح والفن وركزت على تعديلها وتطويرها في إطار إنساني يتطلع للحرية والمساواة والعدالة.
كان من الصعب أن ينتهي القرن الثامن عشر من دون ثورة كبرى تهز العالم. فالسياق التطوري كان يقود نحو هذا الاتجاه الطبيعي للتحول. والنخبة التي بدأت تستقل عن الكنيسة مستفيدة من الاختراعات والمختبرات والاكتشافات لم تعد خائفة من البوح بمقالاتها كما كان حال كوبرنيك في العام 1542 أو كما حصل مع غاليليو حين تعرض إلى الإهانة واضطر إلى التراجع عن أقواله أمام محكمة التفتيش في العام 1633. العالم تغير والنخبة الأوروبية تحصنت وبدأت تستعد لأخذ زمام المبادرة متسلحة بإنجازات علمية لم يعد بإمكان الكنيسة تجاهل تأثيراتها في صنع وعي الناس.
حتى العقود القليلة التي سبقت الثورة الفرنسية كان الفلاسفة يترددون في إعلان إلحادهم، وكان معظم أصحاب المذاهب المادية (الحسية والنفعية) يتجهون نحو التوفيق بين الدين والعلم أو التناغم بين المعتقد الديني والفلسفة أو الانسجام بين العقل والإيمان. فالاستقلال عن الكنيسة كان مجرد دعوة عامة لا صلة لها بالقناعات بقدر ما هي رؤية سياسية أو إدارية أو تنظيمية تريد ترتيب العلاقة بين الدولة والدين من طريق فصل أو عزل رجال الدين عن رجال الدولة. المسألة لم تطرح على قاعدة الإلحاد ونكران الخالق وإنما من باب تمييز مهمات الدولة عن واجبات الكنيسة. واستمر هذا الفكر الملتوي ينمو باطراد ويتحرك في القارة بحياء إلى أن انفجرت الثورة وتحولت فرنسا إلى ساحة للصراع ومنطقة نفوذ للفكر الحرّ الذي اكتسح أوروبا متجاوزا مختلف الحواجز والممنوعات والمحرمات والمقدسات.
الكلام عن التصدعات التي أحدثتها الثورة لا يستقيم من دون ذكر ثلاثة عاصروا تحولات قبل حصول ذاك الانفجار العنيف في باريس. فهناك أولا رجل القانون الفيلسوف مونتسكيو (1689-1755). وهناك ثانيا الفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776). وهناك ثالثا الفيلسوف السياسي وصاحب كتاب «العقد الاجتماعي» جان جاك روسو (1712-1778) الذي رحل عن الدنيا قبل 11 سنة من اندلاع الثورة الفرنسية.
تصادف نشاط هؤلاء الثلاثة مع بدء أوروبا دخول عصر الآلة (الثورة الصناعية) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الذي أخذ يمتد ويتوسع في ضوء اهتزازات «ايديولوجية» أحدثها زلزال لشبونة في عقل النخبة الأوروبية. آنذاك كانت البرتغال تراجعت عن موقعها في قيادة القارة ولم تعد تلعب ذلك الدور الريادي الذي صنعه أميرها هنري الفاتح في مطلع القرن الخامس عشر، إلا أن لشبونة كانت لاتزال تحمل في الذاكرة الجمعية تلك الخصوصية الرمزية في الفن العمراني والقيادة الملاحية، واستمرت كذلك إلى أن ضربها ذاك الزلزال في العام 1755.
أحدث دمار لشبونة وإخراجها من المعادلة الأوروبية صدمة نفسية لا تقل في تأثيراتها المعنوية عن صدمة سقوط القسطنطينية. فالعقل الأوروبي وقف مدهوشا أمام المأساة وانقسمت النخبة تناقش وتسجل وتبحث في الأسباب والمسببات و»العلة الأولى». وأدى الزلزال إلى إعادة طرح تلك الأسئلة البديهية بشأن الخالق والإنسان والطبيعة والفاعل والقوانين المادية وآليات التطور وأدوات التحطيم. وساهم الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804) في الإجابة عن الكثير من تلك الأسئلة الحائرة بشأن أسباب الزلازل في إطار اشتغاله الطويل على العقل ومشتقاته.
إلى زلزال لشبونة توقفت حرب السنوات السبع بين فرنسا وبريطانيا وانتهت إلى توقيع معاهدة سلمية في العام 1763 ما أعطى فرصة للنخبة الأوروبية بإعادة التفكير بالكثير من المسلّمات السياسية التي تشكلت خلال العهود الغابرة. إلا أن الحدث الأهم الذي تجاوز في تأثيراته البنيوية كل النقاشات بشأن زلزال لشبونة والمعاهدة الفرنسية - البريطانية وأدى إلى تحويل تاريخ أوروبا ودفعها بقوة إلى عصر الميكانيك الصناعي كان اختراع الاسكتلندي جيمس واط الآلة البخارية في العام 1765.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2765 - الخميس 01 أبريل 2010م الموافق 16 ربيع الثاني 1431هـ
عبد علي عباس البصري
اشكر الكاتب والمأرخ وليد نويهض على مقاله بس ما نريد منه ايضا تطبيق الماضي على الحاضر وذلك للفائد وشكرا وشكرا وشكرا
ولضيق الوقت لكان هناك تعليقات اكثر .
عبد علي عباس البصري
الثوره الطالبانيه التي استحوذ عليه رجل الدين وللاسف لم يوجد فيلسوف ولا اقتصادي بس سلاح وفكر متطرف بأسم الدين ادى الى تدهور افقانستان وباكستان ليصبحا في يد الامريكان 100% بس الوقت في متسع اذا ما تضافرت الايدي لاخراج البلدين من سيطره رجل الدين ورجل الدكتاتوريه كلاهما بغيضان اذا ما خلو من الفلاسفه والحكماء ورجال الاقتصاد والسياسه الحكيمه التي لا ترضى بالذل والهوان وكذلك لا ترضى بأن تدمر البلدان.
عبد علي عباس البصري
عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هذان الرجلان الذين قلبا القدر رأسا على عقب وغيرا بوصله تركيا من الشرق والغرب الى الشمال والجنوب أسسا حزب الرفاه وبعد حله أسسا حزب الفضيلة وبعد تقويضه اسسا حزب العدالة والتنمية رجل اقتصاد وآخر سياسي كلاهما من اسره فقيره ارغما سلطه الجيش على الانصياع الى آرائهما رجل اصبح رأيس الدوله وبكفائه وآخر رئيس وزرائه الله ثوره هو الفريده من نوعها في تاريخ الامم . فلادماء ولا خسائر بس تغيير مباشر
عبد علي عبا س البصري
هل استطاع رجل الدين ان يحدث ثوره تاريخيه بدون الفلاسفه والاقتصاديين ورجال الاعمال والقانون . ؟؟
فللاجابه على هذه الاسئله ، يجب ان نطبقها على ايران وتركيا والطالبان فمع كو الاخلاف كبير المسافه الى انه في اتصال من جهه واحده هي ثوره غيرت التاريخ العالمي ؟؟؟ ايران لن يستطع الامام الخميني لوحده يسقط الامبراطور الشاهنشاهي ، ساعده العديد من الفلاسفه مثل باهنر ورجائي وكذلك الرجل العسكري أول وزير للدفاع في القوات الايرانيه الخمينيه ,
فالثوره الايرانيه لم تقم على رجل الدين لحده ؟ ابدا
عبد علي عباس البصري(وا اسفاه عليك ..)
اربعه اسطر التي كتبت عن ثوره لشبونه او الثوره الفرنسيه واسبابها الرجال الاربعه ، رجل الاقتصاد ورجل الفلسفه ورجل السياسه / مع خلو المقال من رجل الذي له الدور في تحريك الضمير الداخلي لمتلاكه حيز من فطره الانسان في انتمائه للدين فلرمى يرى مجتمع بلا جضاره ولا كن لا نمكن ان يرى انسان بلادين! على كل حال بعد هذه المقدمه البسيطه ، ان لو اردنا ان نطبق هذا التاريخ الاوربي على التاريخ الشرق ا وسطي فماذا سيكون