العدد 2765 - الخميس 01 أبريل 2010م الموافق 16 ربيع الثاني 1431هـ

التنمية الضائعة: أين نحن من الحداثة؟ (4)

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

منبر الحرية

أحمد أبو وصال - كاتب من المغرب، والمقال ينشر بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org 

خصصنا المقالات الثلاث السابقة لترسيخ الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية في أوروبا، وكيف عجزنا نحن في عالمنا العربي عن تحقيق ذلك. وبالتالي استمرت البنية الفكرية تقليدية (عدم القدرة على تحرير العقل العربي من جموده المركب) والبنية السياسية (استمرار الدولة القبلية عوض الدولة الأمة الحديثة) وظلت البنية الاجتماعية جامدة (غياب أي صراع طبقي قادر على إفراز التغيير).

وفي هذه المقالة الرابعة سنواصل الحديث عن نجاح أوروبا في تحقيق وترسيخ حداثتها الاقتصادية، هذه الحداثة التي انطلقت منذ أواخر القرن 13م من المدن الإيطالية، وأصبحت واقعا مع الاكتشافات الجغرافية وبداية عصر الرأسمالية التجارية، ثم ترسخت مع الثورة التقنية وولوج أوروبا عصر الرأسمالية الصناعية في النصف الثاني من القرن 18م، وأخيرا انطلاق أوروبا نحو الهيمنة على العالم في إطار الحركة الإمبريالية في العقود الأخيرة من القرن 19م، وبداية مرحلة الرأسمالية المالية، في حين استمرت البنيات الإنتاجية في عالمنا العربي تقليدية، ولم تشهد ثورة جذرية في تقنياتها وأساليب عملها.

لم يمنع سيادة النظام الفيودالي ذي الاقتصاد الإنتاجي المغلق والمتمحور حول الأرض كوسيلة لإنتاج الثروة (الريع) من بروز تحولات عميقة في آليات وأنماط الإنتاج. هذه التحولات كان لها دور كبير في تفكك وتصدع أسس النظام الفيودالي ووضع اللبنات الأولى لنظام جديد بدأ يتبلور تدريجيا، ونعني بذلك النظام الرأسمالي الذي ارتبط به تطور أوروبا في مختلف المجالات، وشكل بداية انطلاق الحداثة الاقتصادية الأوروبية.

بدأت هذه التحولات في عدة مدن إيطالية (فلورنسا، جنوة، البندقية...) حيث لم يعد اقتصادها يعتمد على الأرض كمصدر للثروة والسلطة، بل ظهرت أنشطة أخرى أصبحت تنمو وتستقطب عددا كبيرا من المغامرين الباحثين عن الربح بعيدا عن الأرض. أهم هذه الأنشطة التجارة، فقد شكل البحر الأبيض المتوسط مركز العالم القديم قبل الاكتشافات الجغرافية، واكتشاف العالم الجديد والطريق البحري نحو الهند، لذلك استغل الإيطاليون موقع مدنهم وانفتاحها على شرق وغرب المتوسط فاحتكروا النشاط التجاري مع المسلمين، وقد أدى ذلك إلى تحقيق هؤلاء التجار أرباحا كثيرة وراكموا الثروات من خلال توزيع بضائعهم في إيطاليا وباقي أوروبا. ولم يكتف الإيطاليون بالنشاط التجاري بل استغلوا تراكم المواد النفيسة لتطوير النشاط المالي (الصيرفة)، وهكذا برز إلى جانب التجار الصيارفة الذين بدأوا في وضع أساليب وتقنيات المعاملات المالية وتطويرها، وشكل ذلك بداية ظهور النماذج الأولى للبنوك ومؤسسات القرض. وإلى جانب التجارة والصيرفة بدأ النشاط الصناعي يتبلور من خلال تطوير تقنيات الإنتاج وأساليبه.

أفرزت هذه التحولات نخبة حضرية غنية تمكنت من الوصول إلى الحكم في بعض المدن الإيطالية كأسرة (آل ميديتشي) هذا الازدهار والرفاه الذي أصبحت تعيشه إيطاليا، دفع دولا أوروبية أخرى إلى محاولة التخلص من وساطة التجار الإيطاليين وخاصة البرتغال وإسبانيا، وكان ذلك أحد أهم العوامل التي ساهمت في انطلاق الاكتشافات الجغرافية. وقد شكلت هذه الاكتشافات مرحلة جديدة في ترسيخ الحداثة الاقتصادية الأوروبية، فقد أدى تراكم المواد النفيسة والمواد الأولية إلى دخول أوروبا عصر المركانتيلية الذي شكل البداية الفعلية للنظام الرأسمالي في مرحلته التجارية.

خلال القرن 16 و17م دخلت دول جديدة حلبة التوسع، ونتج عن ذلك توافر كل مقومات الثورة الصناعية: المواد النفيسة (رؤوس الأموال) والمواد الأولية والنمو السكاني، وأصبح المشكل المطروح هو ضعف التقنيات المستعملة في عملية الإنتاج الصناعي. وهكذا وجهت البرجوازية كل اهتماماتها لتشجيع الابتكارات والاختراعات والبحث عن طاقة جديدة بديلة، وفي هذا الإطار ظهرت عدة اختراعات تقنية (خاصة في مجال النسيج والتعدين) كما ظهرت طاقة جديدة (الطاقة البخارية) وأدى تطبيق هذه الابتكارات في مجال الإنتاج إلى انطلاق الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن 18م، وشكل ذلك مرحلة أخرى من مراحل تطور النظام الرأسمالي تجلت في التحول من الطابع التجاري إلى الطابع الصناعي. وبدأ القطاع الصناعي ينتقل تدريجيا من نظام الورشة إلى نظام المعمل حيث التنظيم المحكم للعمل وتوزيعه والبحث عن أساليب جديدة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكلفة. ولم تكتف البرجوازية بذلك بل استمرت طيلة القرن 19م في تحديث الأساليب مما أدى إلى انطلاق ثورة صناعية ثانية، استفاد منها القطاع الفلاحي والصناعي والمواصلات، وواكب ذلك سيطرة القطاع المالي (البنوك) على معظم الأنشطة الاقتصادية وبالتالي انتقلت الرأسمالية إلى مرحلتها المالية، هذه المرحلة التي تمظهرت في حركة استعمارية واسعة ذات طبيعة اقتصادية ومالية (الإمبريالية). لقد كان التحديث الاقتصادي الأوروبي متواصلا ومسترسلا وموازيا لكافة التحولات الأخرى في مختلف الميادين، وشكل البحث العلمي المحرك الأساسي لعمليات التحديث وتعددت الاختراعات وتنوعت، ولم يكن القرن 20م سوى امتداد لهذه التطورات مادامت الحداثة الاقتصادية أصبحت واقعا ومنهجا في تنظيم كل عمليات الإنتاج.

ونعود لنطرح السؤال نفسه كما طرحناه في المقالات السابقة: هل عرف عالمنا العربي حداثة اقتصادية وسعى إلى وضع أسسها وترسيخها كما فعلت أوروبا؟

الواضح أن المجتمع العربي لم يعرف ثورة صناعية وتقنية، واستمرت آليات الإنتاج تقليدية وأساليب تنظيم العمل قديمة، ورغم أن الإنتاج الفلاحي والحرفي وفر الحاجيات الضرورية للاستهلاك إلا أن النمو السكاني أدى إلى اتساع الفجوة بين الإنتاج والطلب. وقد استغلت أوروبا هذا الخصاص في القرن 19م لإغراق الأسواق العربية بالبضائع المصنعة ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة، وكانت النتيجة انهيار حتى الحرف التقليدية التي لم تعد قادرة على المنافسة. وحاربت أوروبا أي تطور تقني وكل محاولات الإصلاح والتحديث (كما وقع في مصر مع محاولة محمد علي).

لقد ظلت المجتمعات العربية أسواقا للبضائع ومصدرا للمواد الأولية الرخيصة، ولغياب طبقة برجوازية تحمل مشروعا تحديثيا وفكرا عصريا استمرت البنيات الإنتاجية تقليدية، واكتفت برجوازيتنا المحلية بدور الوسيط ودعم التغلغل الاقتصادي الأوروبي. واستمرت البنيات كما كانت عليه، وبعد استقلال المجتمعات العربية انصب الاهتمام على الصناعات الخفيفة أو الاستخراجية والتي احتكرتها الشركات الأجنبية. لقد دخلت عدة دول أوروبية حاليا عصر ما بعد المجتمع الصناعي، ولم تعد الصناعة المقياس الأساسي للتطور وأصبحت صناعتنا أشبه بالحرف بالمقارنة مع الصناعات العالية التكنولوجية.

مازالت طبقتنا الصناعية تخضع في تنظيم عمليات الإنتاج لمنطق الربح السريع وفي توظيف العنصر البشري للقرابة والقبلية عوض الكفاءة والاستحقاق، وتلجأ إلى المصاهرة للحفاظ على قوتها المادية في نطاق ضيق، إنها برجوازية في معظمها جشعة ومغرورة تعتقد أن الكل يستهدفها. وعوض أن تحترم القوانين وتفي بالتزاماتها المالية وتساهم في تمويل مشاريع تنموية لا تستهدف الربح، نجدها أكثر خرقا للقانون معتمدة على قوتها المالية، ومستظلة بحماية سلطة حاكمة لا تقل عنها خرقا للقوانين وتكرس الوضع السائد.

إن الحداثة الاقتصادية لن تتحقق إلا بوجود إرادة حقيقية في إعادة تفكيك البنيات السائدة، وذلك من خلال إقرار أنظمة ديمقراطية ذات مؤسسات قوية، وتشجيع الطبقة الوسطى ودعم البحث العلمي والانتقال من اقتصاد الريع والامتيازات إلى اقتصاد ليبرالي اجتماعي منتج.

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2765 - الخميس 01 أبريل 2010م الموافق 16 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً