أهمية جون لوك أنه يجمع بين الرؤية والتجربة. وسيرته الشخصية التي تربط الجانب النضالي بالجانب النظري أعطت فلسفته قوة تجريبية كان لها دورها لاحقا في التأثير على قادة الثورة الأميركية حين قام رموزها باستلهام أفكاره عن الحرية والتسامح خلال كتابة دستور الولايات المتحدة.
مبدئيا يخالف لوك رأي هوبس بالإنسان وتصويره لتلك الرؤية المتوحشة في التعامل مع مبادئ العدالة والمساواة. لوك أكثر انفتاحا على عصره وظروفه اختلفت عن هوبس بعد أن قرر التصالح مع الواقع.
ولد لوك في منطقة بريستول في العام 1632 وتأثر بوالده المحامي الذي انخرط في الحرب الأهلية دفاعا عن البرلمان؛ ما أعطاه تجربة غنية بالسياسة وهو في سن الطفولة والشباب. وخلال دراسته اللغات القديمة في مدرسة وستمنستر اطلع على كتب فلسفية وأخرى لها صلة بالعلوم قبل أن ينتقل إلى جامعة أكسفورد لمتابعة دراساته الدينية.
قرر لوك مغادرة حقل الفلسفة والانتقال إلى دراسة الطب واتصل في العام 1666 بالسياسي المشهور اللورد أشلي (كونت شفتسبري) وتحول إلى مساعده وطبيبه لمدة ثلاث سنوات. وحين تجدد الصراع بين البرلمان والملك غادر إلى فرنسا بين 1672 و1679 وثم هولندا بين 1683 و1689 وعاد إلى إنجلترا بعد استقرار الوضع مقرِرا اعتزال الوظائف العامة والتفرغ للكتابة.
اشتغل لوك كثيرا على تطوير رؤيته الفلسفية انطلاقا من إعادة ترتيب منظومة أفكار عامة تركزت على توضيح بعض المفاهيم التي كانت متداولة في عصره التائه بين الاضطراب والاستقرار. وبسبب رؤية لوك الفلسفية التي تؤكد على الاستقراء والمنطق والحس والتجريب والملاحظة والاختيار اندفع إلى حفر منهجية واقعية تشير إلى أهمية التجربة ودورها في صقل نماذج سياسية متقدمة في تعاملها مع الإنسان وحقوقه ومتطلباته وحقه بالحرية والاعتراض والتملك والاحترام.
جاءت مفاهيم لوك عن التسامح والحكومة المدنية في وقتها المناسب فهي من جانب شكلت ردا على تلك الأفكار المتعصبة التي أنتجتها الحروب الأهلية (الدينية) وأثارتها الصراعات بين الدول في أوروبا ومن جانب آخر أطلقت موجة من التفاؤل والحلول الإيجابية ضد نزعة الكراهية وإلغاء المختلف.
كان لدعوات لوك بشأن فصل وظائف الدولة عن مهمات الكنيسة وإعطاء الفرد حرية العبادة ومنع الحكومة من التدخل في شئون المواطن الدينية دورها في تعديل الكثير من المفاهيم المتداولة عند النخبة عن مبدأ الدولة. وبسبب هذه الرؤى المتجانسة مع طبيعة المتغيرات في تاريخ القارة لعبت أفكار لوك دورها في التأثير السياسي على الكثير من الفلاسفة ورجال القانون في القرن الثامن عشر. فالمفردات التي استخدمها لوك عن حق الملكية، وحق العمل، والحرية الشخصية، والسلطة القضائية، والمجتمع المدني (الطبيعي)، والحكومة المدنية ستتحول إلى مصطلحات في قاموس الثورات السياسية وسيأخذ بها الكثير من رجال الدولة والعاملين في حقول القضاء والقانون حين بدأت أوروبا والولايات المتحدة بالانتقال من حكم الفرد المستبد وحقبة السلطة المطلقة إلى عصر الدولة الدستورية.
رحل لوك في العام 1704 في وقت كانت بريطانيا تعيش مرحلة واعدة من التقدم. فالاكتشافات الجغرافية أخذت تعطي مردودها الاقتصادي وبدأت تساعد على تجاوز الأزمات الاجتماعية ما أنعش الحياة العامة للناس وسهل مهمات الدولة وطور خدماتها للمواطن. وأدى نمو دور الدولة الاجتماعي وتحسين معيشة الطبقات الوسطى إلى تعزيز ولاء الفرد للحكومة ما رفع من نسبة المصالحة بين الدولة والمجتمع.
تقدم وظائف الدولة وتطوير مهماتها ساعد في توسيع قاعدتها الاجتماعية في السوق ما أعطاها موقع القائد السياسي في توحيد المجتمع وضمان حقوق المواطن وحماية أمنه. فرنسا بدأت تتوجه نحو الوحدة القومية، كذلك بريطانيا (المملكة المتحدة)، وجمهوريات هولندا وبعض مقاطعات ألمانيا. هذا التطور على صعيد الوحدات السياسية شكل انعطافة تاريخية في صعود الدولة القومية في مرحلة لاحقة مستفيدة من اتساع وظائفها الاجتماعية ونمو مشاعر الولاء عند المواطنين نتيجة الاستقرار النسبي للمداخيل واستفادتهم من الموارد التي أخذت تتدفق على القارة من وراء البحار.
الاكتشافات الجغرافية طورت المواصلات والنقل وأعطت فرصة ثانية للسكان وتوفير حق الانتقال والتوطن في المستعمرات التي أخذت تنتشر في أميركا. فالاستيطان في العالم الجديد دام نحو القرنين فبدأ بقوة في 1580 واشتد في 1620 وتصاعد في نهاية 1700 وبلغ عدد المستوطنات في الشمال الأميركي وحده 40 مستوطنة احترفت الزراعة والتجارة والصيد والبحث عن المعادن الثمينة. وساهم هذا التطور المضاف على اكتشاف طريق الهند شرقا في تحريك التنافس بين شركات الملاحة التجارية الأوروبية للسيطرة على موارد ما وراء البحار. وأدى التنافس على مراحل إلى انتقال موقع القيادة الأوروبية من دولة إلى أخرى وصولا إلى دخول فرنسا وبريطانيا على خط القيادة البحرية بعد تراجع دور البرتغال وإسبانيا في الساحة الدولية.
في هذا الفضاء المزدحم بالتنافس بدأت أفكار الفيلسوف ليبنتز تشق طريقها في قارة أخذت تتجه نحو التصادم الداخلي بقيادة دول معاصرة. ليبنتز استفاد من كل علوم عصره لينسج فلسفة خاصة مركبة من مختارات وفروع وروافد نجح في تجميع عيناتها من جهات متخالفة. فهو أخذ من ديكارت وبسكال وسبينوزا ونيوتن ولوك ورد عليهم ما أدى إلى توسيع دائرة خصومه ومقاطعته من مختلف المؤسسات والمعاهد الأكاديمية في أوروبا في نهاية حياته.
ليبنتز الذي ولد في مدينة لايبزغ في العام 1646 قبل سنتين من نهاية حرب الثلاثين عاما من أب قانوني وأستاذ للأخلاق في جامعة المدينة يمثل ذاك النموذج الخاص الذي يجمع بين العبقرية والانتهازية. في الجانب العبقري يعتبر أذكى إنسان أنجبته القارة وفي الجانب الشخصي لم يتردد في استخدام الفلسفة لتمرير مصالحه النفعية وطموحاته الخاصة. فهو مثلا رد على فلسفة ديكارت لإرضاء رجال الكنيسة والتقرب من الحركة اليسوعية (المدعومة من البابوية) بهدف كسب ثقتها لترويج أفكاره. وهو لم يتردد في استلهام اختراع بسكال للآلة الحاسبة وعمد على تعديلها وتطويرها وأضاف عليها حتى تأخذ اسمه. وهو استكشف حساب الفوارق (التفاضل) في العام 1676 ودخل في حال تصادم وتنافس مع العالم الفيزيائي إسحق نيوتن الذي سبقه في اكتشاف هذا العلم.
آنذاك كان نيوتن (1642 – 1727) من المشاهير العلماء وأستاذ الفيزياء في جامعة كامبردج وصاحب المبادئ الرياضية للفلسفة والبصريات وله مكتشفات منهجية في قانون الجاذبية وعلوم الفيزياء. هذا الدور المميز أعطاه قيمة خاصة في المعاهد والأكاديميات وجعله من الشخصيات الكبيرة صاحبة الموقع الفريد من نوعه في التأثير على حقول الفلسفة في إطارها العلمي والرياضي ما ساهم في تأييد الوسط الأكاديمي لنيوتن (صاحب ثلاثة قوانين للحركة: قانون القصور الذاتي، قانون تناسب القوة والسرعة، وقانون تساوي الفعل ورد الفعل المضاد) حين ادعى ليبنتز أن نظريته في مسألة حساب الفوارق (التفاضل) التي انتهى من تطويرها في العام 1676 تجاوزت نظرية نيوتن التي وضعها في العام 1665. والأمر نفسه فعله ليبنتز مع لوك حين رد على كتابه «محاولة في الفهم الإنساني» الذي صدر في العام1690 بكتاب «محاولات جديدة في الفهم الإنساني» الذي انتهى منه بعد وفاة لوك.
انتهازية ليبنتز لا تلغي عبقريته. فهذا المفكر الألماني جمع الرياضيات والقانون والعلوم (الكيمياء) إلى جانب الهندسة والفلسفة والتاريخ والدبلوماسية كتب 15 ألف مخطوطة (لم ينشر منها سوى 15 في المئة) تناولت مختلف شئون عصره من سياسة ودبلوماسية وعلوم وفلسفة وتاريخ. ولأنه لا يلتزم بمنهجية فلسفية واحدة في التفكير انفتحت آفاقه على أبعاد لا متناهية من القدرة على الرؤية والتوليف والتركيب والتوفيق.
تحدث ليبنتز عن «حقائق العقل» و «حقائق الواقع» وقال بنوع من العقلانية التوفيقية التي تقف في منطقة وسطى بين الحقيقة والخطأ. والمنطقة الوسطى أطلق عليها المعرفة الاحتمالية التي تقف بوسط الطريق بين الأحكام التقريبية والأحكام القطعية وتفتح النظريات على وظائف ومحمولات نسبية تعطل التصادم وتدفع نحو علوم التوافق والتناغم والتناسق.
معادلة التماكن (الإمكان) ساعدت ليبنتز على تطوير منظومته المعرفية وفتحتها على أنساق فكرية ما جعله يؤسس قاعدة حساب التفاضل ومفهوم التناغم (توحيد الكثرة وتكثيف التعدد في إطار الوحدة) منتقدا الطبيعة الميكانيكية (المنهج الآلي التلقائي) وداعيا إلى اعتماد فن التوافق (التفاضل) انطلاقا من نظرية الطاقة.
رفض ليبنتز نظرية ديكارت الميكانيكية دفعه إلى تطوير آليات القوة (الديناميكا) والمطالبة بالتوافق (المصالحة) بين العقيدة (المسيحية) والعقل لأن العالم يشتمل على حقائق أزلية وحقائق وضعية وقضايا ضرورية وقضايا عرضية. وكل هذه الثنائيات تحتاج إلى طاقة (قوة دينامية) قادرة على إنتاج حركة تدفع نحو التجانس والتناغم والتماكن وعقلنة الكهنوت وتقريب الدين من الفلسفة في اعتبار أن الدين يضمن نجاح العلم.
نقد ديكارت ونظرية الطبيعة الميكانيكية ومحاورة لوك وسبينوزا وهوبس وابن رشد والتقرب من الحركة اليسوعية (الكاثوليكية) والدعوة إلى اعتماد قانون الطاقة (القوة الدينامية المتحركة) والاطلاع على منتوجات بسكال وتطوير آلته الحسابية وتحديث قاعدة حساب التفاضل ومزاحمة نيوتن والدفع باتجاه العقلانية التوفيقية (التناسق، التناغم، والمعرفة الاحتمالية) كلها تشكل عناوين فلسفية وعلمية لتوضيح وتبرير مشروعه السياسي.
عبقرية ليبنتز كانت أوسع من دائرته الجغرافية وحقبته الزمنية. فهو التقط تلك المؤشرات الكونية للاكتشافات والملاحة إلى ما وراء البحار. لذلك كان السباق في الدعوة إلى «الإنسان الكوني» انطلاقا من رؤية كونية للعالم. وبسبب ملاحظته لتسارع وتيرة التطور ومضاعفاته على القارة الأوروبية اتجه ليبنتز إلى تبني دعوة توحيد الكنيسة وإعادة دمج المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي للتخفيف عن شعوب أوروبا مصائب المستقبل.
مخاوف ليبنتز من «فائض القوة» الأوروبية دفعته فلسفيا إلى تطوير نظرية التوفيق (التناغم والانسجام) وسياسيا إلى التحرك دبلوماسيا والاتصال بملوك بروسيا وفرنسا وبريطانيا محاولا إقناعهم بتوحيد القارة وجمع الكنيسة وتصدير «فائض القوة» إلى خارج أوروبا.
اعتمد ليبنتز مفردة «المونادا» اليونانية وتعني «الوحدة» لإقناع قادة أوروبا بالتفاهم والتنسيق وتصدير القوة إلى الخارج ومحاربة السلطنة العثمانية واحتلال مصر. وجاءت فكرة «مونادا» لترجح الاتحاد على الانقسام وتؤشر إلى وجود انتباه مبكر على خصوصية المنتوج السياسي التوحيدي الذي يمكن أن تتوصل إليه البشرية من طريق التطور والتقدم بشرط أن تتوافق أوروبا على تصدير مخرون قوتها وعدم التورط واستخدامه في الداخل. بسبب هذه القناعات السياسية توجه الفيلسوف بتكليف دبلوماسي من بروسيا إلى باريس في العام 1672 وحاول إقناع الملك لويس الرابع عشر باحتلال مصر ومحاربة السلطنة العثمانية لكونها تشكل خطرا على أوروبا وثقافتها الحديثة. كذلك توجه إلى بريطانيا وهولندا للغرض نفسه من دون طائل.
الكنيسة استمرت منقسمة، وشركات الملاحة واصلت التنافس، والدول الأوروبية أخذت تتزاحم على النفوذ والمستعمرات وتتقاتل على ترسيم الحدود وانتزاع المقاطعات وتعديل الخرائط والتورط في الحروب القومية (الاقتصادية) في داخل القارة وخارجها.
نظريات ليبنتز عن الخالق والحرية والعقل والعدل والخير والعلة الكافية وحدوث العالم وكونية الإنسان وتناغم الوحدة وتناسقها لم تنجح في إقناع أوروبا بالتخلي عن الانقسام القاري والكنسي والابتعاد عن المصالح وحروب الحدود ولكنها نجحت لاحقا وبعد رحيل صاحب المشروع الاستعماري بعقود من السنين في إقناع الجنرال نابليون بونابرت في احتلال مصر في نهاية القرن الثامن عشر.
رحيل ليبنتز في العام 1716 جاء في لحظة تاريخية صاعدة شهدت القارة خلالها خطوات متسارعة في نموها وتقدمها وتطورها. فالآليات الدينامية التي تحدث عنها الفيلسوف والدبلوماسي والمؤرخ والعالم بدأت تضغط بقوة رافعة أوروبا إلى حقبة أكثر حداثة وميكانيكية ولكنها الأعنف في تصدعاتها القارية والكونية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2758 - الخميس 25 مارس 2010م الموافق 09 ربيع الثاني 1431هـ