مآثر مارسيله لم تقتصر على ما حصله من رتبة علمية، بل كانت له مشاركة في الحياة العامة ذات شأن. ذلك أن لويس الرابع، ملك فرنسا الذي كان في صراع شديد مع الكنيسة، اختاره فيمن اختار لينصره في نزاعه مع البابا يوحنا الثاني والعشرين، فكان كتاب الدفاع عن الصلح من جملة آثار ذلك.
ولم يكن يعترض على الكنيسة ذوو الثقافة الحرة فقط، الذي يمثل دانتي ومارسيله نموذجين بارزين عنهم، بل إن جبهة أخرى من المفكرين المسيحيين كانت أقوى أثرا من هؤلاء في كسر شوكة البابا وهيمنة الكنيسة. ويعد وليم الأوكامي الممثل الأبرز لهذا الاتجاه الأخير الذي لم يكن يعترض على البابا والكنيسة فحسب، بل كان له من أفكاره الكلامية ما جعل الكثير من مؤرخي الفلسفة يعتبروها المنعطف الذي أفضى من علم الإلهيات المسيحي إلى الفلسفات العقلية والتجريبية الحديثة.
وسنستعرض في ما يلي آراء الأوكامي ومارسيله، كممثلين عن أهم وأقوى اتجاه شارك في إعداد مقدمات نشوء عصر التاريخ الغربي الحديث. على أنني أرى من الضروري أن أوضح مسألة مهمة قد تعيننا على أن يأتي حكمنا على هذه الوقائع أدنى إلى الإنصاف.
والمسألة هي أن أنصار البابا، كالقديس توما وجون الساليسبوري (1115 – 1180م)، وإن وقفوا في الصف المقابل للاتجاهات المناوئة للبابوية والكنيسة صراحة، أو صاحبة الدعوة التجديدية عموما، لا يمكن عدهم خصوما لقضية العقل والحرية، فنظريات أمثال هذين كان لها بدورها تأثير كبير في ظهور الأفق الجديد، وبث روح التطور في جميع المجالات – ومنها مجال السياسة، وقد أشرنا سابقا إلى أن توما الأكويني، كأرسطو، يعتقد أن الحكومة أمر طبيعي، وأن غاية السياسة هي الخير، خلافا لأغسطينس الذي كان يعتقد أن السياسة شأن وضيع وغير طبيعي، وأنها ضريبة يدفعها الإنسان تكفيرا عن الخطيئة الأصلية.
القديس توما، بتقسيمه القانون إلى أربعة أقسام، منها القانون الوضعي الذي ينقسم بدوره إلى قانون إلهي وقانون بشري، وفصله بين القانونين، وبتوجهه المنطقي والفلسفي الذي يستفاد منه أن السياسة والحكومة قائمتان على القانون العرفي البشري، وكثير من المسائل الأخرى دفع فكر العصور الوسطى إلى منعطف حاسم، وأثار أسئلة جديدة عند أهل الرأي والنظر، أو منحهم الجرأة على التساؤل والبحث عن أجوبة على أسئلتهم.
كذلك الأمر بالنسبة إلى جون الساليسبوري الذي كان مفكرا مبدعا، وصاحب فلسفة متأثرة في باب السياسة بآراء شيشرون فتحت الطريق أمام أهل الرأي للسير نحو استقرار حكومات دستورية، واتخاذ القانون والقرار البشريين سبيلا إلى إدارة الأمور.
وهذا رغم تمسك الأكويني والساليسبوري بضرورة المحافظة على منزلة البابا والكنيسة، وعلى التوازن بين السلطتين الدينية والدنيوية.
بعد التنبيه على هذه المسألة والتحذير من مغبة إطلاق الأحكام على غير بينة من ظروف المكان والزمان نعود إلى وليم الأوكامي.
كان وليم الأوكامي، المتوفى العام 1349 الميلادي، من الرهبنة الفرنسيسكانية، تخرج من جامعة أوكسفورد، كما درس في باريس لفترات متقطعة أيضا، وانتهى صاحب مدرسة في الفلسفة كان لها تأثير بعيد على تطور الفكر في نهايات العصور الوسطى من جانبين: جانب فلسفي كلامي وآخر سياسي، على معنى ما.
فقد حاول وليم الأوكامي، مستندا إلى المنطق، أن يهدم أسس الفلسفة المدرسية (السكولاستيكية) لا لأجل تحرير العقل، بل لإعادة النظر في حجية العقل ومن ثم تخليص الإيمان من قيوده، لكن محاولته تعثرت.
لقد أعلن وليم الأوكامي، صراحة أن الموجودات الوحيدة التي يمكن إثباتها هي الموجودات الجزئية، وأما الكليات فهي أسماء وعلامات.
واندفع وليم الأوكامي في تصوراته، حتى نفى إمكان إثبات تجرد النفس، وهذا ليس ببعيد عن الفلسفة الحسية التجريبية. وكان يرد على من يقول بأن نفس الإنسان مجردة لا مادية باعتبارها تنتزع المعرفة من الأشياء المادية بمعونة العقل يرد على ذلك بالقول إنه لا تجربة تثبت دور العقل ذاك، كما أنه لا يقين لدينا على صدور التعقل عن النفس. ويذهب إلى أبعد من ذلك إذ يتساءل: أية فائدة ترجى من فرض فرضيات معقدة لتبرير كيفية إمكان التعقل؟ وإذا كان البناء على فرضيات من هذا القبيل فلم لا نقبلها كما يقبل المسيحيون عقائدهم؟ فالإيمان يلقننا العقائد على هذا النحو، أو يدعونا إلى قبولها والتسليم بها كأسس عقائدية وحقائق إيمانية، لكنه يعجز عن إثبات أي منها.
ولبيان خطورة ما ذهب إليه الأوكامي لا بد من التذكير أن أرسطو والقديس توما كانا يعتقدان بوجود صور يمكن لنفس الإنسان تعقلها من خلال العقل المنفعل، وبمساعدة العقل الفعال، وبذا كانا يفسران حصول العلم، لكن تخلي الأوكامي عن الاعتقاد بإمكان إدراك وجود هذه الصور الماهوية، وتشكيكه بوجود العقول الفعالة والمنفعلة، أفضى به إلى رفض هذه الأفكار بالكلية وإلى اعتبارها باطلة من الأساس. وعلى ما يقول جيلسون فإن أفكارا مادية مشروطة، من قبيل أفكار الأوكامي، هي قيد أنملة أو أدنى من المادية المطلقة.
بناء على هذه المقدمات، سعى الأوكامي إلى زعزعة أصل العلية لصالح إطلاق إرادة الباري تعالى، وعدم تقييدها، فحكم بأنه من الممكن – كأصل كلامي – أن يخلق الله سبحانه ما يشاء مما يشاء. وكما هو بين فإن إرسال المشيئة الإلهية يوسع الإمكان إلى حد افتراض وجود علة من دون معلولها، ومعلول من دون علته.
والحق أن هذه الإرادة الجزافية التي نسبها هذا الفيلسوف الفرنسيسكاني الإنجليزي إلى الله سبحانة قد فتحت الباب واسعا أمام لاأدرية هيوم المطلقة وهو ما سنعرض له فيما بعد.
لكن دور وليم الأوكامي لا ينحصر في مجال المباحث الكلامية والفلسفية، إذ كان لآرائه في الأمور الاجتماعية والسياسية من الأهمية والتأثير ما كان لأفكاره المنطقية والكلامية.
فالأوكامي يعتقد أن سلطة البابا المطلقة كفر وشرك، من وجهة نظر المسيحية، وأنها بدعة هدامة، ومثيرة للفتن من وجهة نظر السياسة.
والأوكامي، كالقديس توما، يعتقد أن منشأ القانون هو العقل الطبيعي الذي يتمتع به الإنسان بإرادة الله. وبعده يأتي دور الإنسان بالتزامه الإنصاف، وباستفادته من تجارب الشعوب، والعادات الخاصة، في سن القوانين الوضعية، ومجموع هذه العوامل يمثل عنده منظومة متكاملة تغيرت تفاصيلها الجزئية بتغير العصور والأحوال ولكن أسسها بقيت ثابته.
كما يحكم الأوكامي بلزوم احترام الملكية واستقلالها، ويعتبر سلطتها ناشئة من رضا المجتمع الذي يعتبر عنه أعيان هذا المجتمع.
ويعتقد الأوكامي أنه لا بد من تحديد سلطة البابا، وأن السبيل الوحيد لذلك هو بإقامة نظام نيابي، وانتخاب مجلس عام يكون ممثلا عن المسيحيين، بحيث تتحول سلطة البابا المطلقة في مجال العمل الكنسي إلى سلطة مشروطة، ويرى أن السبيل لتحقيق سلطة من هذا القبيل هو في إجراء انتخابات تشارك فيها الرهبانيات والأديرة وسائر مرافق الكنيسة المعتبرة.
لا حاجة بنا إلى التأكيد على أهمية صدور هذه الأفكار عن عالم مرموق مثل الأوكامي، ولا على ما كان لها من دور في زعزعة السلطة البابوية – أقله في وسط الجمهور. ولا حاجة بنا أيضا إلى التأكيد على أن الدعوة الأوكامية إلى تقييد السلطة البابوية تسري حكما – وبالأولى – على السلطات المدنية، وأن دعوته هذه جرت ماء كثيرا إلى طاحونة منظري الحكومة النيابية، في مقابل منظري السلطة المطلقة – دينية كانت أم مدنية.
وعلى ما سبقت الإشارة، إلى فإن العلم الآخر الذي عجلت آراؤه في العبور من العصور الوسطى إلى العصر الحديث هو مارسيله البادوي (1275 – 1342م) الطبيب الإيطالي المتأله، خريج جامعة باريس ورئيسها فيما بعد.
فهذا الأخير لم يتورع عن القول بأن البابا هو مصدر الفوضى الدابة في المجتمع، وأنه لا مفر عن مواجهته، ويخرج من ذلك، مقتفيا أرسطو، للبحث عن مجتمع غني، قادر على رفع احتياجاته الأعم المادية منها والمعنوية.
ويقترح، للوصول إلى مجتمع متقدم ومتماسك، أن تخضع السلطة الروحية لسلطة الدولة، وأن تنضوي تحت لوائها، وبذلك يمكن اعتباره، كما تقدم القول، من رواد العلمانية (Secularism)، التي أسفرت عن وجهها في القرن السابع عشر مع الأرسطوسية.
ويعتقد مارسيله أن أوامر البابا لا وجه قانونيا لها أبدا، إلا أن يؤيدها المجتمع، فتصير جزءا من القوانين البشرية.
لم يوغل مفكر في العصور الوسطى ما أوغله مارسيله في تحديد الدين، ولا سعى فيلسوف بعده، إلى القرن السابع عشر الميلادي – حيث ظهر الأرسطوسيون وفلاسفتهم – كسعيه إلى إضعاف الجهاز الديني.
بفضل النهضة الحديثة والإصلاح الديني وما بيناه من أمرهما، تمزقت شرنقة العصور الوسطى التي كانت تصفد عالم المسيحية، فانطلقت الطاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الحديثة من عقالها، وعلى هذه الخلفية لم يبق إلا أن يظهر من يوقع وثيقة انقضاء العصور الوسطى. ولقد ظهر بالفعل في شخص ماكيافللي.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2758 - الخميس 25 مارس 2010م الموافق 09 ربيع الثاني 1431هـ
تصحيح بعض ما ورد في المقال (كرم عباس)
استمعت بقراءة المقال لكن هناك بعض التعديلات، اسم الفيلسوف باللاتينية هو مارسيليوس البادوي أو مارسيل دي بادوا نسبة إلي مدينة بادوا الإيطالية، كما أن الكتاب ليس اسمه (المدافع عن الصلح) بل المدافع عن السلام DEfensor paciis وهناك كتاب آخر أسماه المدافع الأصغر، ومارسيليوس انتقد سلطة البابا بالرجوع إلي أصل الدين وأصل ما ورد في الكتاب المقدس، لذلك تسمي إصلاحاته أرثوذكسية أو أصولية؛ فهو والأوكامي وغيرهم ليسوا ضد الدين بل ضد فساد رجال الدين في العصر الوسيط.
اصلا متوقع منك انك ما تفهم
الى الزائر 1 ... كلش مو مجنس انت..اقراء مقالات على مستوى عقلك. تره توك ياي من البراري..... تحية طيبة لجريدة الوسط..
بعيدا عن المقال .
انه احب تفكير السيد خاتمي لانه تفكيره معتدل وليس متطرف.
... البصري
بعد خروج اوربى من العصور الوسطى ،طبعا ستدخل في العصور الاخرى ، وقد كانت في العصور الاولى والان في العصور ..... وانزين او تالي وين بتروح في عصور الكمبري لو في عصور الدينوصورات ، اوين وصلنا من تلاقح الحضارات ، واوين احنى الآن .... والله ترتره ... انزين لو احنى ما عرفنى اوربى خلنا نعرف الهند كجو مرحبى ... الله بالخير غاتي هاي شنهى يحجي عربي لو فرنسي لو ايطالي ، لو هالجريده شنهو منشأها .