انتهيتُ قبل فترة من قراءة كتاب «Age of Revolution» للمؤرّخ الشهير إريك هُوْبزْباوْم. يقع الكتاب في 639 صفحة. وهو يُشكّل أحد أشدّ الأسفار قدرة على الإمساك بالزمن غير المُدرَك بالمحسوس، ومدّه بحواضر العلوم الأخرى.

فرغم أنه كتابٌ تاريخي، إلاّ أنه مُحاك بشكل يصنع إلى جانب الأحداث وصفا، وتركيبا، موازيا. في النهاية لا تستطيع إلاّ أن تتخيّل نفسك وكأنك تعيش أحداث أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتسمع أصوات أبطالها بشكل واضح.

ما يهمّني من ذلك ليس الحديث عن الكتاب ذاته، وإنما الحديث عن مشواري معه. أن أسرد تجربة شخصية مع جنس الكتاب. بالتأكيد، أدرك أن لكلّ أحدٍ منا طريقته مع القراءة، واقتناء الكُتب؛ لكنني أدرك أيضا أن مجموع الطُرق تلك من شأنها أن تُنتج رؤية أخرى لإدراك المعاني والأفكار بشكل مختلف.

شخصيا، لا أدخل في معركة مع الكتاب. لا يُمكنني أن أضرب تزمينا لقراءته. ووقتا للإبحار فيه، وآخر للانتهاء منها. أعتقد بأن في ذلك جبريّة غير مستساغة. هذا لا يعني أنني لا أروم الجدّيّة معه، لكنني مقتنع تمام الاقتناع، بأن القراءة الصحيحة هي قراءتَان. أوّليّة، وختاميّة. واحدة من أجل النص، وأخرى من أجل المعنى.

ثم الإصرار على إدراك المعلومة، عبر جعلها في سياق الذاكرة طورا، وفي قوس التفكير طورا آخر، حتى بعد أن أغلق دفّتي الكتاب. ما يدفعني إلى قول ذلك هو التجربة وقيمها. فحين لا تكون القراءة محلّ استغراق، فإنها لا تُنتج حصادا؛ لأن مفضيات النظر إلى الكتاب ونمنماته بشكل عابر قد تهرسها أقدام النسيان، ويُبخِس حقّها ما اكتنزت به الذاكرة من أفكار سابقة.

ثم أصرّ على التدوين والتوثيق، فتنشأ من ذلك مراتب متعددة من الأرشيف الخاص، يُنشّطه البحث المُحكَم. كما أنني لا أغادر مُفردة غامضة دونّ فكّها لغويا. وهو جهد مضاعف، لكنه ضروري لكي تفهم الأشياء كما يجب. ولكي تؤمن بلا هوادة مرة بعد أخرى بأن عادة القراءة لا يُمكن إرضاؤها أبدا حتى بالنسبة لمن شاخت أعينهم من المطالعة.

سلكتُ هذا الطريق منذ أن آمنت به. اليوم أستعين بالذاكرة المنحوتة على الورق، كلّما أردت الكتابة. بعض ما أرجُع إليه مضى عليه أزيد من ثلاثين عاما! الغريب أنك حين تستمرئ ذلك الطريق، فإنه يُعينك على استحضار المعلومة الموثوق بها، وهو بمقدار ما كنتَ تُنفقه من جدّيّة على اقتفائها وملاحظة ما بين سطورها.

لك أن تتخيّل أن بوصلة الذاكرة المبذول عليها بسخاء، تأخذ بيدك بشكل مغناطيسي نحو رُزمة من الورق المُكدَّس، أو باتجاه أعداد هائلة من المجلاّت القديمة، أو الكتُب المُغبرة والمركونة، لكي تعثر على دلالة قول، أو فكرة مفقودة، أو تجارب شخصية، أو تصريحات لأحد الناس بات لرأيه قيمة مُلحّة في زمن يتجدّد.

كان الشاعر الروماني أوفيد يقول «الفقير، فقط هو من يُداوم على إحصاء قطيعه». بالتحديد أمارس ذلك بشكل صارم مع القراءة. أعيش الشعور بأنني مازلت أفتقر للمعلومة، فأسعى إلى استحصال ما يُكثّر التقتير لدي. وأحرص على مراجعة من أكتُبُه وأقرأه لكي أعطيه حياة حاضري بشكل لائق. وهي قد تتحوّل إلى مرتبة متقدمة على أخرى لم يجفّ حبر وقائعها بعد.

في المحصّلة يستأهل الكتاب أن نعطيه ذلك. فحين يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «يبدو لي أن كل ما أعرفه عن حياتي تعلمته من الكتب» فهذا يعني أن الكتاب أصبح جزءا من الحياة. بل جزءا من الأعضاء غير المحسوسة للإنسان (وهو حقا كذلك).