هناك قصة للنظام البيئي الذي تكون بفعل أشجار القرم على سواحل خليج توبلي في مملكة البحرين منذ أكثر من أربعة آلاف سنة, وأحداث هذه القصة متداخلة, فهناك النظام البيئي الذي سبب وفرة في الموارد الاقتصادية التي استعاشت عليها العديد من العائلات، وهناك المكان الذي ارتبط بأحداث وذكريات، وهناك عناصر ثقافية تسربت للثقافة الشعبية للشعوب القديمة وتم توارثها عنهم. سنقتبس في هذا الفصل عدة مشاهد من قصة حياة بيئة القرم منها ما ارتبط بالمكان ومنها ما ارتبط بعناصر ثقافية ومنها ما ارتبط بالنظام نفسه, حينها سوف يتضح لنا أن أشجار القرم لم تعتمد فقط على نظامها البيئي لتضمن لنفسها الخلود في الذاكرة الجمعية لكنها أثرت في عدة جوانب من حياة الجماعة لتبقى حاضرة في عقولهم ويورثونها لأبنائهم.
عثر في موقع سار الأثري أو ما يعرف بالمدينة الدلمونية في سار على قطع متفحمة لنوع من شجر الأيكة لكن ليس النوع المتعارف عليه في البحرين أي القرم الأسود بل نوع آخر أكبر منه يبلغ طول الشجرة منه نحو 6 – 8 أمتار وهو نوع يعرف باسم القندل من جنس Rhizophora (Gale 1994, Tengberg 2005) وخشب هذا النوع معروف عندنا حيث يسمى (الجندل) وهو تحريف لاسم قندل. هذا النوع ما عاد له وجود على سواحل الخليج العربي، لكنه كان ينمو بصورة طبيعية في مناطق من سواحل الخليج العربي في دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان حيث تدل الدراسات الأركيوبوتانية على وجود هذا النبات في تلك المناطق منذ 2500 ق. م. حتى القرن الثالث عشر الميلادي (Tengberg 2005). وعلى الرغم من الدراسات التي تؤكد نمو هذا النوع على سواحل الخليج العربي إلا أن المرجح أن سكان البحرين قديما كانوا يستوردونه من الخارج حيث إنه من المستبعد أن ينمو بصورة طبيعية في البحرين. في فصول قادمة سنتناول نباتات لم يتصور أحد أنها كانت تزرع في البحرين بل اعتبر البعض أن زراعتها في البحرين أمر مستحيل ولكن أصبح الآن من المسلمات أنها كانت تزرع في البحرين, وربما يحدث المثل لأشجار القندل فنحن لا نعلم على وجه الدقة الظروف البيئية في البحرين في العصور القديمة.
عثر في موقع قلعة البحرين على بقايا أخشاب لنبات القرم الأسود يعود تاريخه لحقبة دلمون المبكرة (Tengberg et Lombard 2001), وهناك نصوص موثقة تؤكد وجود أشجار القرم الأسود في البحرين قرابة هذا التاريخ.
أول من ذكر وجود أشجار القرم في جزر البحرين كان الفيلسوف ثيوفراستس في كتابه تاريخ النبات وذلك في الحديث عن نباتات تايلوس وهو ما نقل عن أنذروسثينس الذي زار تايلوس العام 323 ق. م, يقول ثيوفرستس:
«تقع جزيرة تايلوس في الخليج العربي. ويقال إن جهتها مكسوة بالكثير من الأشجار التي تشكل لها سياجا حقيقيا، عندما يحصل المد، ويبلغ حجم الواحدة منها حجم شجرة التين، وأريج زهرها فواح إلى أقصى حد، وثمارها لا تصلح للأكل، تشبه الترمس» (بوتس 2003: ج2 ص838).
ويرى المحققون لهذا الوصف أن المقصود هو أشجار القرم الأسود.
إن المساحة التي تمثلها أشجار القرم الحالية على سواحل خليج توبلي تمثل أقل من ربع المساحة الإجمالية التي كانت تمثلها قبل السبعينيات من القرن المنصرم, فقد حدث تغير في شكل خليج توبلي بسبب عمليات الردم التي أدت لفقد أكثر من ثلاثة أرباع المساحة التي كانت تمثلها أشجار القرم في السابق. فقد كان لخليج توبلي امتداد داخل في البر ابتداء من غرب البلاد القديم ويمتد شرقا مرورا بقرية أبو أبهام حتى جنوب شرق السهلة وكان يعرف هذا الامتداد باسم خليج مقطع توبلي أو خور الكاب والعامة تسميه (المقطع), وكانت أشجار القرم تنمو بمحاذاة ساحل خليج توبلي وكذلك ساحل المقطع وتتجه جنوبا مرورا بسواحل قرى جدعلي وجرداب وسند والعكر والمعامير, وبالإضافة لذلك فقد كانت تنمو أشجار القرم على الساحل الغربي لجزيرة سترة وكذلك أجزاء من سواحل جزيرة النبيه صالح (خلف والمدني 1999 ص 36). كانت أشجار القرم تمثل سدا على ساحل خليج توبلي باستثناء مناطق كانت تستخدم كمرافئ للانتقال من وإلى جزيرة النبيه صالح التي توجد في وسط خليج توبلي.
التنقل من وإلى جزيرة النبيه صالحقبل بناء الجسر الذي يربط جزيرة النبيه صالح بجزيرة سترة من طرف وبالجزيرة الأم من الطرف الآخر وذلك في العام 1978 كان التنقل من وإلى الجزيرة عن طريق النقل البحري, وكانت هناك ثلاث مناطق رئيسية للنقل, الأولى من ساحل البلاد القديم والثانية من منطقة أبوغزال مقابل قرية الماحوز وساحل (جبلة بيجان) الذي يقع أسفل رأس توبلي ومقابل قرية الكورة.
العديد من الناس كانوا يخرجون من تلك المناطق متوجهين لجزيرة النبيه صالح وذلك لزيارة الضريح الموجود بها, هذا السلوك حفر في ذاكرة العديد من الناس ليس فقط بسبب أنه طريق للزيارة بل بسبب حدوث كارثة مؤلمة مازالت تجد من يجدد صياغة تفاصيلها كل ما ظن البعض أنها نسيت, إنها الحادثة التي عرفت بطبعة البلاد القديم وهي حادثة غرق فيها 41 مواطنا في رحلة بحرية كانت متجهة من البلاد القديم إلى قرية النبيه صالح العام 1949.
سبق أن ذكرنا أن هذا الخليج كان امتدادا لخليج توبلي وهو خليج داخل في البر في جنوبي شرق السهلة وكان يمتد حتى شارع الشيخ سلمان حاليا وبذلك كان يفصل بين منطقة توبلي ومنطقة البلاد القديم. هذا الخليج متصل في نهايته (أي طرفه الغربي) بقناة مائية عريضة تشترك مع قناة تصريف عين خضرة في قرية الظهران سابقا (جزء من قرية عالي حاليا), وتصب في هذه القناة بالإضافة لمنجى عين خضرة العديد من قنوات الري والتصريف (المنجيات) من العيون والمزارع المختلفة المجاورة لها وكذلك منجيات العيون من قرى سار ومقابة والشاخورة وأبو صيبع. وبذلك كان يمثل المقطع مع القناة فاصلا مائيا يفصل بين جنوب وشمال جزيرة البحرين الكبرى, وكان على ضفتي هذا المقطع آلاف النخيل وأشجار الفواكه المختلفة. وكانت تنمو أشجار القرم بكثافة على ساحل المقطع, وقد قدرت مساحة أشجار القرم التابعة لخليج مقطع توبلي بقرابة 300 هكتار (الزياني 1999 ص 51) وهي ما تمثل أكثر من ثلاثة أرباع مساحة أشجار القرم الحالية.
هذه القناة التي تتصل بخليج مقطع توبلي كانت في الحقب القديمة تمتد حتى تصل إلى مقربة من مدينة سار الدلمونية حيث تكون المسافة الفاصلة بينهما قرابة 1.5 كيلومتر (Bush et. al. 2005), وربما كانت أشجار القرم تصل حتى موقع هذه المدينة الدلمونية, وهنا نسترجع ما ذكرناه سابقا عن أن أول موقع عثر فيه على آثار لأشجار القندل وهي أشجار تعيش مع أشجار القرم ولكنها تنمو في المنطقة الخلفية لأشجار القرم حيث تفضل الابتعاد عن منطقة المد والجزر (Hogarth 1999 p. 36) فهل هذه المعطيات ترجح أن أشجار القندل كانت تنمو في البحرين قديما كما في دول خليجية أخرى؟
قاع خليج مقطع توبلي طيني وعندما تنحسر المياه يمكن العبور خلاله مشيا أو راكبين الحمير, أما في حالات المد فيجب الالتفاف حوله أو ركوب قارب, وقد كانت هناك قوارب تخرج من مري (في توبلي) إلى البلاد القديم, وقد تم تسهيل عبور المقطع ببناء جسر في نهاية المقطع وبداية القناة المائية عرف هذا الجسر باسم ردم الكوري, وقد ذكر المبارك في كتابه «حاضر البحرين» عن ردم الكوري ما يلي:
«وهي مبانٍ ومعامل ومحطة غاز البحرين، وسميت بذلك لأنها مجاورة لردم الكوري وهو جسر على الخليج الفاصل بين المنطقة الشمالية والجنوبية فوصل بينهما بهذا الجسر واتصل الشارع الرئيسي المار من المنامة إلى أوال ونسبته للكَوَري الذي بناه وهو رجل من الأغنياء يقال له الشيخ أحمد الكوري نزيل الكَوَرة. وهذا الجسر أول جسر بني في البحرين، وجدد مرات عديدة على نفقة الحكومة وموقعه بين (مري) و(سلماباد) وخليجه ممتد من بلاد القديم إلى العين الخضراء في الظهران».
كانت قرية الظَهْران تقع بين قريتي سار وبربغي وهذا يجعلها في الشمال الغربي لقرية عالي, وقد كانت من المناطق المزدهرة زراعيا فقد كانت مليئة بالنخيل والبساتين والعيون الطبيعية, وأشهر تلك العيون هي عين خضرة, ولم يذكر اسم الظهران إلا المبارك في (حاضر البحرين) والناصري في كتابه من تراث شعب البحرين حيث وصل لنا الاسم من خلال مثل شعبي قديم وهو:
اتحزم في «الظهران» واتعمم في «الرويس» ولبس انعاله في «القدم».
لقد ضمن النظام البيئي للقرم وفرة الأسماك والربيان في مياه خليج توبلي, ولوفرة الأسماك كانت النساء تصطاد سمك السبيطي على ساحل الخليج ويذكر السعيد في كتاب «العقد النظيم» أن العديد من الناس كانت تصطاد في منجيات العيون ليلا وذلك في الليالي التي يكون فيها القمر بدرا. ولكثرة وجود الأربيان وبالذات بمنطقة أبو غزال يكاد لا يخلو بيت في توبلي والقرى المجاورة من الربيان المجفف طوال العام.
يبدو أن صورة توافر أسماك السبيطي بأعداد غفيرة على ساحل خليج توبلي بحيث يمكنك أن تأخذ ما تشاء منها ليست بالصورة النادرة, فقد وصلتنا شهادة موثقة من الشاعر أبو البحر جعفر الخطي الذي وصف الصورة ذاتها عندما عبر خليج مقطع توبلي, والقصة كما وردت في ديوانه كالتالي:
«وعبر البحر بين محلّة (مرّي) من قرية (كتكان) - توبلي حاليا - من جزيرة (أوال) من البحرين، متوجها لمنزله بقرية (أبو بهام)، حيث كان البحر جزرا، فلما توسّط معظم الماء، وثب بعض الحوت اسمه (السبيطي) طافرا في وجهه، فشقَّ وجنته اليمنى بجرح؛ كانت عينه منه في عناية، فتأذى لذلك، فطالبه الأدب بنظم هذه القصيدة (القصة) فقال للسنة (1019هـ/1610م):
بِرغمِ العَوَالِي والمُهَنَّدَةِ البُتْرِ
دِمَاءٌ أَرَاقَتْهَا سُبَيْطِيَّةُ البَحْرِ
أَلاَ قَدْ جَرَى بَحْرُ (البِلادِ) و(تُوبِلِي)عَلَيَّ بِما ضَاقَتْ بِهِ سَاحَةُ البَرِّ
تَوَجهْتُ مِن (مِرِّي) ضُحَى فَكَأنَّمَا
توَجَّهتُ من (مِرِّي) إلى العَلْقَمِ المُرِّ
تَلَجْلَجْتُ خُورَ القَرْيَتَينِ مُشَمِّرا
وشِبْلِي مَعِي والماءُ في أوَّلِ الجَزْرِ
يرسم لنا السعيد في كتابه «العقد النظيم» صورة جميلة للجمال التي ترتع في القرم حيث يقول:
«كما يحرك المنظر الرائع وأنت تشاهد الجمال وهي منتشرة على ساحل البحر ترعى أشجار القرم التي تعتبر أفضل مرتع خصب للإبل, وترى حولها أعدادا كثيرة من طيور النورس عائمة أو محلقة. وفي مساء كل يوم عند الأصيل يجمع الرعاة الإبل منادين على كل ناقة وجمل بأسمائها فتجتمع الجمال ثم يسوقها الرعاة في قافلة منتظمة إلى عين قصاري الكبيرة».
العدد 2757 - الأربعاء 24 مارس 2010م الموافق 08 ربيع الثاني 1431هـ