هناك فرصة سياسية للمصالحة الفلسطينية. الفرصة بدأت تظهر في الأفق بناء على قاعدتين سلبيتين: الأولى احتمال تشكيل حكومة اسرائيلية تقودها تكتلات أقصى التطرف الصهيوني برئاسة زعيم الليكود بنيامين نتنياهو. الثانية احتمال استمرار تطويق قطاع غزة ومحاصرته الى فترة يرجح أن تكون طويلة إذا أصر أقصى التطرف على شروطه.
القاعدة السلبية الأولى موجهة ضد السلطة الفلسطينية في رام الله لأنها تعتمد سياسة متطرفة ترفض الإقلاع عن مشروع الاستيطان وتصر على مواصلة توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وبناء المزيد من الوحدات السكنية في مدينة القدس. وهذا الأمر يعني أن لا فائدة من استمرار التفاوض والمراهنة على تطويع حكومة لا تعترف أصلا بمنظمة التحرير الفلسطينية ولا تحترم الاتفاقات التي وقعتها ولا تكترث بالتعهدات الدولية وغير مستعدة للاستجابة لكل الحقوق سواء تلك التي نصت عليها القرارات الدولية أو تلك الأوراق التي وقعت عليها حكومات تل أبيب في أوسلو والقاهرة وواشنطن وشرم الشيخ.
القاعدة السلبية الثانية موجهة ضد قطاع غزة وبوابة مصر الجغرافية. فالشرط الجديد الذي أعلنت عنه حكومة ايهود أولمرت المنتهية ولايتها أدى إلى تعطيل المبادرة المصرية وأحبط امكانات التوصل إلى حل سريع لمشكلة الحصار بسبب ربط تل أبيب خطة «التهدئة الأمنية» بالإفراج عن الأسير جلعاد شاليط. وعملية الربط بين الأسير والتهدئة أدت إلى تغيير في شعارات «حماس» ومنهجها المتوتر في قراءة الموقف المصري من العدوان الإسرائيلي على أهالي غزة.
«حماس» أخذت الآن تسقط الكثير من أفكارها المنفعلة التي أطلقتها خلال فترة العدوان وبعده وبدأت تتخلى عن شعار «تواطؤ الأنظمة» مع تل أبيب أو سياسة إسقاط حكومة رام الله أو البحث عن بديل فلسطيني ومرجعية جديدة غير منظمة التحرير... حتى موقفها السلبي من «المبادرة المصرية» المدعومة أوروبيا بدأت تعيد النظر به. كذلك مطالبتها بالتخلي عن مبادرة قمة بيروت للسلام لم يعد مجديا مادام الخيار الآخر غير متفق عليه عربيا.
تراجع «حماس» عن شعاراتها الحامية وعودتها للقبول بالمبادرة المصرية التي تنص على خطوات ثلاث (وقف العدوان، رفع الحصار، التوصل إلى هدنة أمنية ومصالحة فلسطينية) أعطى فرصة لنمو عقلية «تسووية» واعية تتعامل مع القضايا العامة بروحية قادرة على الربط بين المبدأ وموازين القوى وشروط الجغرافيا السياسية.
نظرية التواطؤ (المؤامرة العربية) انكشفت عمليا وظهر عدم صحتها الميدانية بدليل أن القاهرة اعتبرت توقيع الاتفاق الأمني بين «إسرائيل» والولايات المتحدة في الأيام الأخيرة من عهد جورج بوش رسالة سياسية عنيفة موجهة ضد مصر لكونها تتضمن نقاطا تتقصد النيل من سمعة الدولة وسيادتها ودورها في حماية الأرض والحدود. كذلك نظرية الاستبدال ظهرت ضعيفة حين طرحت «حماس» فكرة المرجعية الموازية أو البديلة إذ تعرضت إلى موجات من الانتقاد والرفض وتبين بالملموس أن منظمة التحرير لاتزال هي القناة التي تهيكل الحقوق الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب وبالتالي فإن المساس بها يزعزع الكثير من الثوابت ويؤدي إلى نوع من الانقسام السياسي يعطي «إسرائيل» ذريعة للتوطين والانقضاض على ما تبقى من أراض محتلة.
لا تفاوض ولا تهدئة
كذلك تعرضت نظرية الإسقاط إلى فشل بنيوي في اعتبار أن العدوان على غزة استهدف الأهالي من دون تمييز ودمر البنى التحتية لكل السكان ودفع كل الفصائل إلى توحيد مواقفها في أطر سياسية تتوافق على الحد الأدنى والمشترك. فالعدوان ضد الناس وليس ضد «حماس» وهذا ما اكتشفته حكومة إسماعيل هينة متأخرة في ضوء النتائج الميدانية ومتطلبات البناء وإعادة الاعمار.
إسقاط السلطة الفلسطينية تراجعت عنه «حماس» لمجموعة اعتبارات سياسية ولوجستية. سياسيا أظهرت الضفة الغربية تعاطفا عمليا على مختلف المستويات لكون العدوان استهدف تمزيق وحدة الشعب وتقويض القضية اعتمادا على الانقسام وهذا ما فشلت تل أبيب في تحقيقه. ولوجستيا لم يكن بإمكان أهالي الضفة التقدم ميدانيا لخوض مواجهة عسكرية ما أدى إلى تكوين وحدة رأي تجتمع على مبدأ المحافظة على مشروع التحرير وبناء دولة مستقلة ذات سيادة و«قابلة للحياة». والعودة الفلسطينية المشتركة إلى نقاط اتفاق تشير إلى وجود صعوبة عملية في تقويض السلطة في ظل حكومة إسرائيلية لا تعترف بالحد الأدنى من الحقوق وترفض التراجع إلى حدود 4 يونيو/ حزيران وغير مستعدة لتفكيك المستوطنات وجدار الفصل العنصري.
المشكلة إذا في الاحتلال الإسرائيلي وما يولده من حركات تطرف صهيونية وتكتلات سياسية تطرح مشروعات توسعية وتصر على تمديد المستوطنات وترفض الاستجابة لدعوات السلام والتفاوض. ومثل هذه المشكلة القديمة الجديدة يرجح أن تتطور في حال توافقت الأحزاب الإسرائيلية التي نالت غالبية في مقاعد «الكنيست» على تشكيل حكومة حرب ضد السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية معطوفة على شرط الإفراج عن الأسير لرفع الحصار عن قطاع غزة.
هذا الانغلاق الإسرائيلي على الضفة والقطاع ومبادرة السلام العربية (لا تفاوض ولا تهدئة) يمكن أن يشكل عناوين حرب لحكومة تل أبيب المقبلة ما يعطي فرصة سياسية للمصالحة الفلسطينية وربما يفتح الباب أمام احتمال التقدم نحو مصالحة عربية تعيد هيكلة استراتيجية الدفاع في مواجهة «كيان» أحبط عمليا كل محاولات التفاوض والمهادنة والتصالح.
هناك فرصة سياسية للتفاهم الفلسطيني على قاعدتين سلبيتين، الأولى اتخذتها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حين رفضت استمرار التفاوض في حال لم تقلع تل أبيب عن سياسة توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي. والثانية اتخذتها حكومة أولمرت التي ربطت رفع الحصار بالإفراج عن الجندي الأسير ما أدى إلى استفزاز القاهرة التي اعتبرت أن القصد من ذاك الربط تأخير المبادرة المصرية وتعطيل إمكانات التوصل إلى تهدئة أمنية في القطاع وتفخيخ مشروع المصالحة الفلسطينية.
انتقال «حماس» من طور التهجم على المبادرة المصرية إلى موقع الدفاع عنها مقابل انتقال منظمة التحرير من طور التفاوض المفتوح على أبواب التنازلات الدائمة إلى موقع ربط العملية السياسية بوقف التمدد الاستيطاني يمهدان الطريق لمشروع المصالحة. هذه الأجواء التراجعية يمكن البناء عليها لتأسيس خطوات ايجابية اعتمادا على القاعدتين السلبيتين. «حماس» تراجعت عن شعاراتها اللفظية وأخذت تقرأ بهدوء الغايات البعيدة من وراء العدوان على غزة. و«فتح» أيضا بدأت تعيد قراءة تلك المراهنة على احتمال نجاح مشروع التفاوض لوقف التمدد الاستيطاني في وقت اتخذت تل أبيب سلسلة قرارات وتدابير تستهدف أولا الضفة والسلطة الفلسطينية في رام الله. والقاهرة التي طرحت مبادرة تتجاوز حدود القطاع توصلت إلى قناعة سياسية تشير إلى وجود خطة إسرائيلية تستهدف أمن مصر وسيادتها من خلال استخدام المعابر الجغرافية واللوجستية لتعطيل الحل متسلحة بالاتفاق الأمني الذي وقعته تل أبيب مع واشنطن.
كل هذه السلبيات يمكن أن تتحول إلى ايجابيات في حال تم التوصل إلى مصالحة برعاية مصرية في القاهرة. فالوحدة الفلسطينية باتت تشكل الآن مفتاح الحل لكون سلاح الاحتلال يتوجه ضد كل الفصائل ويرفض التعامل بعقلية «تسوويه» لا مع السلطة الفلسطينية في الضفة ولا مع المبادرة العربية التي أقرت بالاجماع في قمة بيروت قبل سبع سنوات. هناك فرصة سياسية للمصالحة الفلسطينية وهي جاءت عنوة بسبب انغلاق العقل الصهيوني ولكنها يمكن أن تتحول إلى حاجة وطنية في اعتبار أن القضية كلها موضوعة على المذبح للتضحية بها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2360 - الجمعة 20 فبراير 2009م الموافق 24 صفر 1430هـ