قلة من المسئولين العرب الذين تولوا مناصب مهمة في بلادهم يقومون بكتابة تجاربهم ورؤاهم حتى تستفيد منها الأجيال، وحتى يتم تسجيل تاريخ بلادهم من خلال المواقع التي تولوها.
ويأتي في إطار هذه القلة كتابة «رؤية إستراتيجية لتطور المجتمع البحريني» بقلم الدكتور محمد بن جاسم الغتم رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
ويتصدر الكتاب رسالة جلالة الملك إلى الدكتور الغتم بمناسبة انتهاء أعمال اللجنة الوطنية العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني، وهي اللجنة التي ضمت نخبة من أبناء وبنات البحرين الذين ساهموا بفكرهم ورؤاهم في بلورة هذا الميثاق الذي طرح على الاستفتاء الشعبي وحظي بنسبة 98.4 في المئة أي بما يشبه الاجتماع.
ويعتبر ميثاق العمل الوطني هو أحد ثلاث وثائق مهمة في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبحرين الحديثة. أما الوثيقة الثانية فهي دستور مملكة البحرين 2002، أما الوثيقة الثالثة فهي رؤية 2030. وهذه الوثائق الثلاث يمكن وصفها بأنها تمثل ركائز المسيرة الإصلاحية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والتطور العلمي والثقافي والتربوي وهي تعتبر إطلالة سياسية ودستورية على القرن الحادي والعشرين بمفاهيمه الحديثة وأفكاره وممارساته المتطورة.
وفي هذا السياق الفكري والسياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي يصدر كتاب محمد بن جاسم الغتم «رؤية إستراتيجية لتطور المجتمع البحريني» وهي رؤية تعبر عن ثلاث ركائز:
الأولى: هي الركيزة التاريخية فالمؤلف عاصر مراحل التطور البحريني الحديث كمهندس في شركة ألبا، ثم كضابط في قوة دفاع البحرين ثم كرئيس لجامعة البحرين، وبعد ذلك كوزير للتربية والتعليم، وتلى ذلك رئاسته لمجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث ورئاسته لمجلس إدارة شركة ألبا ولمجلس إدارة شركة الاتصالات التي أنشأها بناء على تعليمات من القيادة واستطاع خلال سنوات عمله الوظيفي أن يترك بصماته في كل موقع من المواقع التي تولاها.
الثانية: هي الركيزة المرتبطة بفلسفة الإدارة فالمؤلف عبر عن فلسفة واضحة في العمل والأداء تقوم على التلاحم بين القيادة السياسية وبين المسئولين عن العمل التنفيذي. هذا التلاحم انعكس في كل موقع تولاه مما جعله موضوع ثقة وتقدير من قياداته ومن مرؤوسيه. ثقة القيادة لتفانيه وإخلاصه في العمل وثقة المرؤوسين لأسلوبه في الإدارة الحازمة والسرعة المتعلقة في اتخاذ القرارات وتحمل تبعاتها.
الثالثة: هي الركيزة المتعلقة بالرؤية الإستراتيجية. فالمؤلف في المواقع العديدة التي تولاها كان يضع خطة لعمله ويقوم بتنفيذها عبر مراحل متعددة ويحشد الخبراء والمختصين حوله، ويدفعهم دفعا للعمل بأسلوب يشبع المودة والصداقة والحزم في الوقت نفسه، ومن ثم يعشر كل من يعمل معه بأنه موضع ثقة وموضوع مسئولية في آنٍ واحد.
ويقع الكتاب في 340 صفحة ويضم سبعة أبواب مقسمة إلى فصول بلغت أحد وثلاثين فصلا، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة. ولا يمكن استعراض كل مكونات الكتاب وإنما نشير فقط إلى عدد من الملاحظات ذات الصلة.
الملاحظة الأولى: إن المؤلف عبر عن اهتمامه بمشاغل الوطن وهمومه واهتماماته ومن ثم ضم الكتاب فصولا عن المواطنة والهوية الوطنية وعن التجربة النيابية وتحرير الاتصالات والبيئة والتنمية ومدينة سلمان الصناعية.
الملاحظة الثانية: إن الغتم كضابط سابق مهموم بقضايا الأمن الوطني والأمن الخليجي بل والأمن العربي، ولهذا ضم الكتاب عدة فصول تناولت هذه الموضوعات وركز على رؤيته تجاه هذه القضايا الأمنية وأبعادها الإستراتيجية.
الملاحظة الثالثة: ترتبط بعالم القرن الحادي والعشرين باعتباره قرنا يتميز بحساسية خاصة فقد بدأ بما أطلق عليه الحرب ضد الإرهاب (الإسلامي) وهو ما أدى إلى تشويه صورة هذا الدين الحنيف، ولذلك ضم الكتاب عدة فصول بل خصص بابا كاملا بعنوان الحضارة والحوار الحضاري وضم قضايا مثل الحضارة والضمير وكذلك الوئام والتعايش بين الحضارات وأهمية ذلك.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بالمستقبل الذي يواجه تحديات من نوع خاص منها ما يتعلق بالثقافة والجامعات ودورها في الإبداع العلمي في القرن الحادي والعشرين، ومنها ما يتصل بالعلاقة بين الدين والسياسة ومدى التفاعل بينهما ومنها ما يتعلق بالثقافة والتعليم ودورهما في بناء الهوية الوطنية، ولعل من الفصول ذات الدلالة الفصل الثامن والعشرين عن العدالة وتحديات المستقبل باعتبار أن العدالة هي ركيزة هذا القرن بل هي ركيزة أي نظام سياسي مستقر. إن مفهوم العدالة هو من المفاهيم الأصيلة في الحضارة الإسلامية، وهو مفهوم عام ومطلق دعت إليه جمع الأديان ومختلف الثقافات والحضارات عبر مسيرة البشرية بأسرها.
الملاحظة الخامسة: إن المؤلف يمكن أن نصفه بالمسئول الملتزم بوطنه، المؤمن بقيادته، الحريص على رصد إنجازاته، ومن هنا كان عنوان الباب الأول القيادة: المسئوليات والإنجازات وعرض في ذلك الباب لبعض من الأنشطة والقرارات ذات الدلالة التي قام بها كل من جلالة الملك ورئيس الوزراء وولي العهد في المجالات العديدة، ولكن أهم ما يميز تلك القرارات هي تناغم أدوار القيادة وحرصها على شعبها وتحقيق تقدمه وأمنه ورفاهيته.
الملاحظة السادسة: إن هذا الكتاب لم يصدر فجأة ولم يأتِ من فراغ بل ظهرت فصوله تباعا على مدى السنوات الماضية وارتبط ظهور تلك الفصول بالمهام والأعمال التي أسندت إليه والمناصب التي تولاها فهي تعبر بحق عن رؤية إستراتيجية وضعها صاحبها موضع التنفيذ الفعلي عبر السنين.
وفي تقديري أن الكتاب يعد إضافة نوعية للمكتبة الوطنية في البحرين، ويساعد في فهم تطورات تجربتها التنموية ومسيرتها في المجالات المتعددة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المملكة وهذا يساعد في إدراك وتعزيز نهضتها.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2755 - الإثنين 22 مارس 2010م الموافق 06 ربيع الثاني 1431هـ