العدد 602 - الخميس 29 أبريل 2004م الموافق 09 ربيع الاول 1425هـ

الفتاوى بين التصويب والاجتهاد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

العالم الإسلامي اليوم في حيرة من أمره. فالغرب يشن عليه حملات عسكرية بذريعة مكافحة الإرهاب مستفيدا من المنظمات التي تطلق تصريحات سياسية باسم الإسلام والمسلمين وتورِّط الأمة في مواجهات كبرى غير قادرة على صدها. والعالم الإسلامي الحائر يجد نفسه مكبلا غير قادر من جهة على التصدي للحملات العسكرية ولا يعرف كيف يوقف هذا «التيار التكفيري» الذي يقوده بعض المجهولين ويصدر الفتاوى من دون علم ودراية.

المضحك في الموضوع ان العالم الغربي يقود حملات احتلال وقتل وإبادة ضد المسلمين، ويقول في الآن ان حربه ليست ضد الاسلام. وهناك في العالم الغربي من يؤكد يوميا ان دين المسلمين بريء من تلك الافعال التي تحصل باسمه ولكنه مضطر إلى خوض حربه في ديار المسلمين بذريعة مساعدتهم على اجتثاث التطرف والمتطرفين.

والمبكي في الموضوع ان العالم العربي (الإسلامي) الذي يتلقى الضربات العسكرية ويتعرض للاحتلال والاذلال يكرر الكلام نفسه، ويؤكد يوميا ان لا علاقة للاسلام والمسلمين بدعاة التكفير والفتنة.

الكلام نفسه يردده العالم من شرقه إلى غربه ولكن النتيجة واحدة وهي: ان هناك حملة عسكرية ضد الاسلام والمسلمين تحصل باسم محاربة التطرف والارهاب، وهناك عالم إسلامي واسع الاطراف غير قادر على تحديد هويته أو التصدي لتلك الهجمة من الجبهتين الخارجية والداخلية.

العالم الإسلامي في حيرة من أمره، فهو لا يعرف كيف يتصرف ويدير مصالحه ويدبر أحواله. وهذه الحيرة ليست جديدة فقد وصفها الشهرستاني في كتابه عن «الملل والنحل» فذكر في الجزء الأول من باب «المشَبِّهَة» تلك الحيرة ووصفها كالآتي: «أعلم ان السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونَصْرهم جماعة من امراء بني أمية على قولهم بالقدر، وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن، تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم، وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم» (ص103).

الحيرة اذا ليست جديدة والاختلاف كذلك. فمنذ العهد الراشدي ظهرت اجتهادات وتفسيرات متباينة لآيات القرآن الكريم. وفي كل فترة كانت تظهر فئة تأخذ بآيات وتترك آيات، أو تفسر ما تريده انطلاقا من آية وتهمل ما لا تريده من آية أخرى تقول العكس.

هذه الحيرة ليست جديدة. الجديد هو الفارق في الاسلوب بين طريقة السلف وتصدي الأئمة والعلماء في كل مرحلة لفئة من تلك الفئات وبين اسلوب تصدي أئمة وعلماء ايامنا المعاصرة لذرائع وتأويلات هذه الفئة التي تكثر من التكفير من دون علم ودراية وتورط الأمة في مواجهات أكبر من قدرتها على الدفاع عن نفسها.

أئمة وعلماء السلف لم يقعدوا واكتفوا برفض ما يصدر من هنا وهناك بل دخلوا باب الاجتهاد يفندون بالعلم والدراية لصد «الفتاوى» الصادرة عن جهلة أو فئة عندها سوء نية في اثارة العالم وتثويره على الاسلام والمسلمين.

الجمود مشكلة ويزيد من الحيرة ويترك الساحة مفتوحة للجهلة في وقت يخاف الأئمة والعلماء من قول قولهم خوفا من التكفير أو تصريحات سلبية وربما أفعال تصدر عن تلك الفئة التي لا يعرف من أين تستمد قواها. فالتكفير مسألة خطيرة لأنه «حكم شرعي» بينما التصويب مسألة واجبة لأنه «حكم عقلي». والمشكلة الحاصلة الآن ان الجهلة يصدرون الاحكام الشرعية ويكفرون من دون دراية أو سند ويرد الأئمة والعلماء عليهم بالتصويب استنادا إلى أحكام عقلانية. وبهذا المعنى يصبح الجهلة في موقع الاقوى لأنهم يكفرون باسم الشرع، بينما يتحول العلماء والأئمة إلى موقع الدفاع (والضعف) لأنهم يصوّبون اخطاء تلك الاحكام بأدلة عقلية.

هذا النوع من التخاطب اذا استمر بين المكفِّرين من جهة والمصوِّبين من جهة أخرى سيؤدي الى تراجع لغة العقل (العارفون بالشرع) وسيادة لغة التطرف (الجاهلون بالشرع).

حتى لا نصل إلى هذا الدرك لابد ان تنهض حركة اجتهادية معاصرة مضادة لتلك الفئات الضالة والضارة بالاسلام والمسلمين. والرد عليها لابد له ان يتجاوز مرحلة التصويب وينتقل إلى مرحلة الاجتهاد. فالاجتهاد في النهاية خطوة هجومية متقدمة على فتاوى التصويب المضادة لذرائع الفئات التكفيرية. فالتصويب هو دفاع سلبي عن العقيدة يرد الاتهامات والهجمات عليها (ضدها أو باسمها) بينما الاجتهاد دفاع ايجابي (هجومي) يفتح العقل على باب الشرع وينقل المعركة من صد الضربات إلى توجيهها. وهذا لا يتم إلا بإعادة إحياء حركة اجتهادية معاصرة تكسر الجمود وتزيل الحيرة وترفع الغشاوة عن العقول والعيون.

لا يكفي ان يقول الأئمة والعلماء إن هذه الأعمال لا علاقة لها بالاسلام والمسلمين، ولا يكفي تكرار الردود (التصويبية) بتأكيد رحمة الاسلام وتسامحه ورفضه للتطرف ونبذه للعنف. فهذا قيل مرارا ويتكرر يوميا على المنابر والفضائيات من دون انقطاع. وحتى الآن لم يتوقف سيل الاتهامات وارتكاب المعاصي والأفعال الشنيعة باسم الاسلام. فالتصويب ضروري وهو من واجب العلماء والأئمة ولكنه ليس كافيا لتفكيك خطاب «التيار التكفيري» وفضح منطقه المتهافت. المطلوب للتصدي لهذه الحملة المشتركة من الخارج والداخل نقل المعركة من الدفاع السلبي (التصويب) إلى الهجوم الايجابي (الاجتهاد).

الاجتهاد واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادث موقف (حكم) شرعي. والاجتهاد لا يمكن وقفه أو الاكتفاء بالاستعانة بنصوص سابقة. فالسابق مرشد عمل للاجتهاد المعاصر ولكنه لا يكفي للرد على أسئلة قلقة تزيد من حيرة المسلمين. فالوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، وبالتالي لابد من تجديد النصوص وتحديثها حتى يمكن الرد على حملة «الفتاوى» التي تطلقها فئات مجهولة الاسم والعنوان باسم الدين.

لا مناص اذا من العودة الى الاجتهاد وتجديد مناهجه وأدواته ولا يجوز أيضا «ان يكون الاجتهاد مرسلا خارجا عن ضبط الشرع» (الشهرستاني، صفحة 199). وضوابط الشرع كثيرة وشروط الاجتهاد معروفة. فلماذا لا نجتهد بدلا من تصويب «اجتهادات» غير المسلمين عن الإسلام أو تصويب «فتاوى» المسلمين المرسلة والخارجة على ضوابط الشرع. فالاجتهاد يقطع الطريق على «الفتاوى» المرسلة ويضبط أحكام الشرع ضمن شروط القياس. فلكل حكم قياس وهو منوط بهذا السبب. والأسباب اليوم كثيرة لفتح باب الاجتهاد المعاصر على آفاق جديدة لم تواجه السلف في الأيام الماضية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 602 - الخميس 29 أبريل 2004م الموافق 09 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً