العدد 601 - الأربعاء 28 أبريل 2004م الموافق 08 ربيع الاول 1425هـ

غوغان - تاهيتي: المحترف المداري

باريس - كلودين كانتي 

تحديث: 12 مايو 2017

«من أين أتينا؟ ما نحن؟ إلى أين نذهب؟»... تقع لوحة بول غوغان المنارة هذه والتي صممها ورسمها العام 1897 كما في وصيته الفنية، في صميم المعرض الذي يستمر حتى 19 يناير/ كانون الثاني في غران باليه في باريس بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الفنان في مايو/ أيار 1903 في أتوانا في جزر المركيز، خلال عزلته التامة عن العالم. قبل عدة أشهر، كأن الرسام قد طالب خلال اقامته الثانية والأخيرة في بولينيزيا والتي الهمته الكثير وتمنى أن ينهي فيها وجوده، في رسالة: «بالحق بالتجرؤ على كل شيء». تعود اليوم هذه اللوحة الرائعة التي يملكها ميوزيوم أوف فاين أرتس في بوسطن الذي ينظم المعرض بعد باريس، للمرة الأولى إلى فرنسا بعد خمسين عاما. وتعرض محاطة بسبع لوحات من أصل ثماني كانت عرضت معها في باريس العام 1898، وتمثل بكل روعة بحث غوغان الدائم طيلة حياته المضطربة عن «المتوحش» وعدم تحقيقه السعادة على رغم اكتشافه.

تم جمع أكثر من 200 لوحة من متاحف ومجموعات خاصة في أوروبا وأميركا وروسيا واليابان لهذا المعرض الذي يتمحور حول اقامتي غوغان في بولينيزيا، في تاهيتي بين عامي 1819 و1893 ومن ثم في جزر المركيز بين عامي 1895 و1903. وتمثل الرسوم والنحوت الفنية مثل («التحف المتوحشة جدا» المستوحاة من أصول البدائية) والنقوش والمخطوطات مع الصور والوثائق الأثنية من تلك الفترة، مجموعة استثنائية تسمح بالعودة الى أصول «من أين أتينا...؟» وبقياس أثر اقامة غوغان على سنوات حياته الأخيرة.

قال في احدى رسائله عن لوحته الوصية المذهلة (4,50م * 1,70م): «استهلكت لوحتي الكبيرة حيويتي كلها لفترة من الزمن، لا أكلّ من التطلع إليها واعترف صدقا بأني معجب بها (...) أعتقد أنها تتجاوز من حيث القيمة سابقاتها وأنني لن أعطى مثلها أو أفضل منها». رسمها في ديسمبر/ كانون الأول 1897 خلال اقامته الثانية في تاهيتي، بعد نوبة قلبية وقبل محاولة انتحار بازرنيخ. وصفها قائلا: «زاويتاها العليا بلون أصفر معدني مع كلمة على اليسار وتوقيعي على اليمين، كجدارية مصدعة الزوايا ومعلقة على جدار ذهبي». في عنصر تأليفه الأساس هناك شخصية غريبة رفعت يداها فوق الرأس وبدت تستحضر نحتا بدائيا، اكتفى بالقول عنها انها: «شخصية في الوسط تقطف ثمرا».

خلال اقامة غوغان في مدينة آرل في جنوب فرنسا مع فانسان فان غوغ العام 1888 (طبعتها نوبة جنون فان غوغ وحادثة قطع أذنه) حلم الرسامان «بنهضة فنية شاسعة تكون المنطقة المدارية موطنا لها ويكون روادها من رسامي «الجيل القادم». آنذاك كتب غوغان الى الرسام أميل برنار، ركن آخر من مدرسة بونتافان في بريتاني: «إن المستقبل هو لرسامي المنطقة المدارية التي لم ترسم بعد، ويلزم التجديد في الزخارف، الجمهور مغفل يشتري اللوحات». وفكر بإطار مثالي «للمحترف المداري» في مدغشقر أو في جزيرة المارتينيك، لكنه اختار في النهاية الذهاب إلى تاهيتي آملا «انهاء وجوده فيها». كتب رسالة في 15 مايو/ أيار 1891 إلى وزير التربية العامة والفنون الجميلة يطلب منه أن يمنحه «مهمة مجانية» للدراسة في تاهيتي، ومنحته الدولة في الحال هذه المهمة «ليدرس من وجهة نظر الفن واللوحات مستخلصا العادات والمناظر في هذا البلد». قال في رسالته: «آمل تنمية فني لذاتي في احالة البدائية والمتوحشة. يلزمني الهدوء لذلك، وما همني مجد الآخرين! غوغان انتهى هنا ولن نرى شيئا منه بعد الآن».

باع بالمزاد العلني 30 لوحة لتمويل رحلته وأبحر غوغان من مرسيليا ليبلغ بابيت وراء جنة على الأرض في يونيو/ حزيران 1891 بعد رحلة دامت 69 يوما. لا وجود لجنة، لكن غوغان سحر بروعة المناظر وبأسرار الذهنية البولينيزية وبحضور الأرواح الدائم في ديانة سكانها. طلب العودة الى فرنسا بعد عام من الاقامة لكنة لم يعد إلا بعد سنتين من العمل وفي العام 1893، حاملا 66 لوحة ونحوتا كثيرة ومقررا «الاندفاع بقوة» لتأكيد موقعه على المسرح الفني الفرنسي. سرعان ما أيقن أن بيع انتاجه البولينيزي يلزمه «تفسيرا» لهذه الحضارة الغريبة، فبدأ بتأليف «نوا نوا» عامي 1893 - 1894 «كتاب عن تاهيتي مفيد جدا لفهم رسومه» - بحسب رسالته التي وجهها الى زوجته الدانمركية والتي ظلت في كوبنهاغن مع أولاده. لم يقرأ هذا النص بكامله وقد وضعت نسخته الاصلية في المعرض مع مخطوطات أخرى مشهورة وسجلت على قرص سيديروم للمناسبة مع كتب باللغتين الانجليزية والفرنسية. ومن ثم عاد الرسام إلى بولينيزيا العام 1895.

يحتل النحت حيزا مهما في انتاج غوغان البولينيزي وبشكل خاص تمثال اوفيري بالخزف المعدني والذي تمنى وصعه على قبره، لكنه اليوم في متحف أورسي في باريس. كتب الى البائع أمبرواز فولار العام 1897 قائلا: «إن تمثال الخزف الكبير (القاتلة) هو قطعة نادرة لم يصنع مثلها خزفي». منذ طفولته عمل على الخشب الذي كان ينحته بسكين ناحتا «الكثير من الاحلام الصغيرة غير المفهومة من الكبار». واستعمله كثيرا في بولينيزيا وخصوصا في النقشيات وفي اللوحات الخمس المحفوظة في متحف أورسي عن المنزل «جوير» الذي شيده في زنتوانا في جزر المركيز وسيعاد تشييده بمناسبة الذكرى المئوية لوفاته في 8 مايو 1903





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً