العدد 601 - الأربعاء 28 أبريل 2004م الموافق 08 ربيع الاول 1425هـ

«حدّاد» يحفر حجارة «جدا»

المنامة - منى عباس فضل 

تحديث: 12 مايو 2017

إن غاب ضوء النخلة عن عيون حائرة، ورحل امتداد البحر من حولك، وغادرتك السكينة بلا رجعة، فهذه السيرة بلا شك، ستنزلك إلى دار السكينة ثانية، وتبحر بك إلى شواطئ تنبسط وتمتد عليها مرافئ الانبعاث، وتزيح عن قلبك بعض الحزن، وتهيئك كي تلهث قراءة إلى «ورشة الأمل» التي ستتمادى بالرحيل بك من فخ إلى آخر، حتى تصلك لحظة الانتشاء.

كالجمر يلامس القلب «قاسم»، وقتما يكسر الحاجز المنتصب بين الذاكرة والحاضر، لاسيما وهو الذي «سيكتبُ مستدركا ما فاته لغزه في الغياب، غير أن الكلام عن الحب أحلى من الحب... حينا»، هل كان حديث مدينة «المحرق» أحلى من حبها؟ ربما، أم أنه الأحلى عندما تقاطعت سيرته الشخصية مع سيرة المدينة التي يعشقها، ويحولها من عقم اللاحراك، إلى حراك في شخوصها وما اشتهروا به من مهن، ويتناولها بكل ذراتها وجيناتها، ويتسلل إليها بصمت العاشق، والمنتظر لوقت الاشتعال.

لقد فكك مدينته «المحرق» عن بكرة أبيها، في كل أطرها ومضمونها، ثم أعاد كما الطفل توحيد أجزائها بالحب بين أناسها، بصلات الرحم من كل زواياها وما يحيطها، جعلها في الوعي الحاضر مدينة أكثر قوة وتماسكا مما هي عليه في الذاكرة، جعلها لا تقل عن أية مدينة شامخة في عالم اليوم.

وبمراوغة المحترف، وقبل أن يلج بنا على متن النص، تساءل: «كيف ستكتب نص المحرق؟» وكانت الإجابة تضج بكل طرق العبور، «مثل سيفٍ وُلد في غمده، سيفٍ سرعان ما شرعتْ زرقةُ البحر صقله، لتحيله إلى موضع الندى». وتمثلها مدينته الخالدة : «...مثل حنينٍ، غير معلن إلى عالم لم يعد موجودا». هذا العالم الذي لم يعد موجودا، أكان ضيعه في زحمة الحياة؟ أم انطلق منه بفعل المكان ومن دون التداعي، واستكان في سردياته، كيومه الدراسي الأول عند «المطوعة أمينة»، إذ تخلق الأبجدية سفر التكوين، أو مثلما تفعل أسماء «الفرجان» والأحياء المتوالدة بين جنبات «المحرق» كأحياء «البنائين، والصاغة، والحدادة، والحياك، والقلاليف... وغيرها» حينما تعبر بأصواتها المشحونة بالقهر والجهد المتصبب كي تصنع لقمة العيش، إنه ينبئ عن بعدٍ واقعي عاشه في فترات مختلفة من حياته.

استرسل وأسهب في طرق عبور «المحرق» التي تيقظت في الوجوه التي عاصرها وظلت تنهش في ذاكراته، فلم يغفل مدرسة الهداية الخليفية ومدرسيها، تلك المدرسة التي وهبها كل الحب والوفاء، حتى أنه اعتبرها «البيت العود»، واللقاء فيها مع «طرفة بن العبد» وبدايات تشكله مع كتابة الشعر: «ثمة من قال: «إن الكتابة لا يغلبها الزمن ولا يقهرها الموت»، حتى أنه وجد الجسور بين مدرسة العلم ومدرسة الحياة في تلك الحجارة الصلدة التى شيدت بها المدرسة وتم قطعها وجلبها من جزيرة «جدا»، ذلك السجن الذي احتوى معتقلين سياسيين لسنوات طويلة، ورب حقيقة داعبها، وهي إنه كان أحد نزلاء المدرستين: «أذكر أننا قرأنا كتابة محفورة على صخرة في جزيرة «جدة» يوم كان سجنا، أن عددا محسوبا من أحجار الجزيرة نقلت لترميم قلعة البحرين في السنوات السالفة»، وربما ضاعف ذلك من الهيبة التاريخية للمدرسة.

والأمر ليس بعيدا وهو يعبر مع البنائين والقلاليف والحدادين الذين عمل معهم عبر أحيائهم، أو إلى الجدة مع صندوقها «حديقة الأسرار»، والمسحراتي وعلاقات حميمة مع شخصيات عاصرها في الفريج «الحي» الذي عاش فيه، بيد أن أبرزها كانت شخصية والده، التي بث فيها سر الحياة الدائم، وفي كل مهنة تصبب عرقه منها، لم يترك الشارد والوارد، حتى اكتشف من تجربته عبقرية «التعبير الشعبي»، عند أبناء مدينة «المحرق»، بما لها من جمالية الدلالة والمقدرة على الاختزال والذكاء والرشاقة والمكر التعبيري، ما شكلت بعدا في البنى التعبيرية في بعض ما كتب، هذا ما برح يؤكده من على متن النص.

تعلم كثيرا من عبارة والده الشهيرة «قوت لا تموت»، ومعه نكتشف حقيقة تكمن في البيت البحريني عامة ومتوارثة عبر الأجيال، حقيقة انهماك جميع أفراد البيت صغيرهم وكبيرهم في عمل متنوع متواصل من أجل توفير الحد الأدنى من أسباب العيش إذ كانت حياة الناس صعبة، وبعضهم يعمل كعبيد ومستسلمين، فكان منهم من يحترف كل أشكال المهن من البحر إلى الحدادة أو البناء، والنساء ينهمكن بمهن مختلفة لتوفير الدعم لمصادر العيش، فالجدة كما رآها تربي الأبقار في الحضيرة، والعمات يعملن بالأجرة في تطريز الملابس النسائية، وهناك من يعملن غسالات عند العوائل الميسورة، ومثلها شاهد والدته تعمل على آلة الخياطة التقليدية، هذه من دون شك، ورشة العمل أو قل ورشة الأمل التي تحقق في النهاية وصية والده « قوت لا تموت»، أما تعبيرية الموقف عن أوقات العوز والضنك التي كان الكثيرون يمرون بها وبمرارة، وخصوصا وهم يواجهون العجز في تلبية متطلبات الأبناء، فيحق لكل منا ذرف الدمع ما يشاء، حين المرور بسيرته قبل سيرة «قاسم»، إذ تمتزج الرغبة والحاجة بالعوز وضيق اليد، وقلة الحيلة، كي يأتي الحب وينقذ ما يستطيع إنقاذه من لحظة الألم، وتلك القبلة التي لثمها الأب على وجه الابن: «حسبت أنها الجنة»، إنها بلاغة التعبير التي تدفع بنا نلثم جنة آبائنا وأمهاتنا في الدنيا قبل الآخرة، هي الدروس التي بدأ يتعلم منها: «... قد تهيأت لا شعوريا للانهماك المبكر في الحياة العملية، بلا توقف طويل في طفولة غامضة وصبا مختزل»، أما درسه الثاني، فيتضح حينما كان كل شيء في المهب، كل شيء عرضة لأن يستقر في مكان ما في المسافة بين الريح والقاع.

هذا الدرس الذي ظل يبحث عنه حثيثا وعن إجابة شافية لأب لا يريد أن ينسى تجاربه الأليمة في أيام الغوص، كما لو أنها تحدث الآن، يخص منها حادثة «الصلب في الصارية»، التي تعرض لها والده، ومارسها فيما بعد على الابن ووجد فيها شكلا خارقا لمعاقبته على خطأ غرته به طفولة طائشة، وعلى رغم ذلك يخرج منها بحكمة حنون: «لكن الأب هو والد قبل كل شيء وبعده، والأولاد ليسوا قدوة للآباء، فالمحبة هي الأصل». ويستدرك ان حال والده ليست إلا نموذجا لكل رجال المحرق الذين يشكل لهم الحديث عن البحر متعة لا يريدون التوقف فيها عن السرد. وبعد زمن من المغامرات التي أوصلته إلى الإنجازات، وإلى يقظة الذات التي جرفته مع الآخرين، وظن من خلالها أن «المحرق» تلهو مع الخصوم الساسيين، ما جعل النضال الوطني في خمسينات وستينات القرن الماضي تاريخا زاخرا بالمتعة المشوبة بروح التضحية من دون الاكتراث بالمصالح الذاتية وحرة من الأنانية، ويضيف: «وقتها لم يكن الناس هناك يملكون ما يخسرونه... حتى أن بعضهم كان يذهب إلى السجن كمن يذهب إلى (بيت الدولة)».

أما علاقته بالطبيعة وإحدى مظاهرها البحر فقد جاءت تعبر عن إنسانية وشاعرية انسيابية «في المحرق، كان فقراء ورشة الأمل يحسنون قراءة كتاب البحر ودفاتر العذاب»، ويرسم وقتها لوحة جميلة ورائعة لعلاقة الإنسان بهذه الجزيرة وبالبحر الذي شاهده زائرا أرزق يتجول في غرف البيت وينتظره الجميع في كل منعطف، فهناك كما يعبر... ألفة حميمة وأجمل أسرار المزاج الإنساني الذي يصوغ علاقة المرء بأشياء الحياة، وإن هذه العلاقة علاقة أزلية تشف عن تفاهم غامض بين الناس والبحر، لكنه - أي البحر - صاحب مزاج رائق وقت الحب، وعاصف وقت الحرب، وهذا ما يجعل النسوة يشهرن النار عليه ويفونه النذور في حالات تأخر الغائب أو مرضه أو تعرضه للغرق والنجاة منها وتقديم الاضاحي في عيد الأضحى، وعندما تغتسل المرأة وقت انتهاء عدتها بعد وفاة الزوج، فهي التي تتوغل وحدها وفي العتمة في البحر كمن يذهب إلى موعد حميم متوخية الستر، فربما يشهد البحر على طهارتها بعد زوجها الميت، كي تستعد لحياة جديدة».

إن محبته للبحر لا توصف، فطالما هجاه الكثير ونعتوه بصفات الغدر والخداع والظلم، لكن ومن فرط الحب يتلمس له الأعذار كما العشاق، حتى أنه يضعه في مقام الضحية المستكينة من شدة الألم: «لستُ سوى ضحية مثلكم، ضحية حاولت أن تنقذ الضحايا فلا تظنن بي الظنون. إن فقدي أعظم مما تشعرن أيتها النساء، لقد كان الجميع أطفالي أيضا، لكم أن تتخيلوا بحرا بلا رجال مثل رجالكم، لقد توهمت أنني الحاكم المتحكم في رعاياه، توهمت ذلك لفرط ما كنتم تقولون عني، توهمت أن بيدى الحياة والموت فإذا بالموت يعسف بنا جميعا. لست إلا ماء غزيرا يمنح الأرض ميزانها، انظرن الآن كيف أبدو وحيدا. كيف تعاقبن بحرا ثاكلا مثلي، ثم أجهش بالبكاء مثل رجل يريد أن يغرق مع أطفاله الذين أخذهم الموت من بين يديه. فكفت النساء عن الندب وتوقفن عن وضع النار على الماء».

ومن مراتب التطهر، يسوغ حكايته مع «السيد»، «الجبل الأخضر» عندما زاره في عُمان، «الغريب أن شعورا بالوحدة كان يستحوذ علي طوال الوقت. كنت متوحدا بصورة غير مرئية، بفعل اتصالي الخفي بالطفولة والذاكرة والمخيلة في آن. الأمر الذي لم يترك مجالا لأية كائنات أخرى أن تزاحم لقائي الشخصي «بالجبل الأخضر»، وتظل رغبته المحمومة تتمنى اجتراح المعجزات: «فتمنيت لو أن لي جبلا يحبني بهذا الشكل»، هنا تبرز الفرادة والتميز حينما يعجن من الذاكرة وخيال الطفولة فلكا ومدارا محملين بالآمال.

ومن ذلك الماء الذي رغب أن يردم فيه، نشوة تتواصل عبر عروقه، ولهاثه، إذ كانت ذريعته التي حلم فيها بلملمة أطراف زمنين ومكانين، استحضرها من ذاكرة عثر عليها من دروس الجغرافيا المبكرة، والتي تقول عن تلك البحيرة الغزيرة من الماء القديم المنسرب تحت الأرض على امتداد المنطقة الشرقية، مغذيا، لفرط غزاراته وعمقه مناطق بعيدة في الخليج تصل إلى البحرين، لا بل إنه سمع كما سمع « السياب»: «الجذور وهي تشرب الماء تحت الأرض».

يبقى أن «ورشة الأمل» سيرة أضفت على مدينة «المحرق» بعدا جماليا ربما يفوق ما وهبته إياها الطبيعة، فهو الذي لف جدائلها، وتحدث عنها وإليها، بلا خجل، وعلى مرأى من الجميع، فكانت أحاديثه كالحواشي المطرزة الرافلة بنضارة لا تستعصي على متمرس، عاشق يملك دف الحس الصادق والكلمة الفضاء كما « قاسم حداد»!

*ورشة الأمل سيرة شخصية لمدينة المحرق - تأليف قاسم حداد، إصدار مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً