من دمشق نكتب... ومن دمشق وفيها تثيرك المشاعر العربية الأصيلة، تلك التي توارت في عواصم عربية أخرى هذه الأيام، وحين تكون في دمشق فأنت وسط أناس مازالوا يعاندون ويمانعون، يقلقون ولا يخافون.
والتعبير الاخير ليس من عندي، ولكن في الحقيقة تعبير جاء على لسان الرئيس السوري بشار الأسد، حين استقبلنا في القصر الجمهوري بقلب دمشق قبل أيام قلائل، على الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب، ومعه دار حوار حر مفتوح وصريح، تناول جميع الهموم العربية والضغوط الدولية.
ابتداء من اجابته المطولة عن سؤالي عن أوضاع الحريات العامة وحقوق الانسان وحرية الصحافة في سورية وطبيعة الاجراءات الأمنية التي تتخذها الحكومة ضد ناشطي حقوق الانسان ودعاة الديمقراطية، مرورا بما يسمى صراع الاجنحة او الصراع بين الحرس القديم والحرس الجديد، في قمة السلطة وانتهاء بطبيعة الضغوط الشديدة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية على سورية، لتليين مواقفها التي تصفها بالتشدد أحيانا وبالمرونة أحيانا أخرى.
وعلى رغم تعدد الأسئلة الحيوية الكثيرة التي طرحها الزملاء الأربعة عشر، أعضاء الامانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب على مدى الساعتين، الا ان الرئيس بشار الأسد كان يعود مرة بعد أخرى، الى سؤالي الأول ليوضح ويفسر، خصوصا ما يتعلق بملاحظتي المتواضعة عن تباطؤ برنامجه للاصلاح والتحديث الذي اورده في «خطاب القسم» أمام مجلس الشعب فور توليه الرئاسة، خلفا لوالده حافظ الأسد في العام 2000.
وان دل ذلك على شيء فإنما يدل على ان السؤال عن الاصلاحات الداخلية الضرورية قد مس صميم العصب وأعني ان بناء المداخل هو الأهم بشرط ان يتم البناء بصيانة الحريات العامة واحترام حقوق الانسان بعيدا عن الاجراءات الاستثنائية وحالات الطوارئ وقوانينها، وبقدر ما مس السؤال العصب بقدر ما أثار اهتمام الرئيس الشاب، فمضى في الاجابة والتوضيح والتفسير مؤكدا ان برنامجه الاصلاحي مستمر ولكن بتؤدة وهدوء وتدرج وانه لا صحة لمقولة صراع الحرس القديم مع الجديد، وان الحريات نسبية تختلف من دولة إلى دولة، ومن حال الى حال.
لكن الاخطر - يقول الرئيس - ان سورية الآن في مرحلة تاريخية خطيرة بعد احتلال العراق، فهذه الدولة الشقيقة تجاورها من الشرق بحدود طويلة، يقف عليها الآن جيش الاحتلال الاميركي، وهناك فلسطين في الغرب تجاورنا ايضا بحدود استراتيجية يقف عليها جيش الاحتلال الصهيوني، بكل ترسانته من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية أي أسلحة الدمار الشامل، ولذلك فإن سورية في وضع سياسي وعسكري غير عادي يختلف عن الدول الأخرى.
في هذا قال اننا فعلا «قلقون من هذه الاوضاع وخصوصا الضغوط الاميركية الجديدة، ولكننا لا نخاف منها».
ولاشك ان هناك فرقا بين القلق من شيء والخوف منه، القلق يدفع إلى مزيد من الاهتمام والحذر والاستعداد، لكن الخوف غالبا ما يشل الفكر والحركة ويعرقل المبادرة ويعوق الاستعداد اللازم للمواجهة.
ولاشك ايضا اننا من الناحية المبدئية نقف مع سورية في هذه المواجهة التي ندرك فداحة مخاطرها، بعد الاحتلال الاميركي للعراق، وابتزاز السياسة الاميركية لدمشق سواء باسم تدمير أسلحة الدمار الشامل، أو باسم حراسة الحدود مع العراق لمنع المقاتلين المتسللين كما تدعي أميركا، وبالقدر نفسه نؤيد سورية في مواجهاتها العصيبة مع العدو الصهيوني، الذي لايزال يحتل الجولان منذ العام 1967 والذي انفلت عقاله أخيرا ليلتهم ما تبقى من فلسطين الذبيحة، وسط عجز عربي وتواطؤ أميركي وصمت دولي مخجل!
غير اننا نرى من الناحية الأخرى ان القدرة على النجاح في هذه المواجهات وتخطي ضغوطها الشرسة، يرتبط أولا وأخيرا بقدرة الداخل على التحمل والتضحية والصمود، الأمر الذي ينطبق على سورية، كما ينطبق على أي دولة أخرى في مثل وضعها الحرج، وخصوصا هو ينطبق على الدول العربية بدرجات متفاوته.
ولن يستطيع اي مجتمع ان يتحمل ويتصدى ويضحي دفاعا عن قضيته الوطنية فضلا عن التزاماته القومية وهو مأزوم وعلاقاته الداخلية تعاني خللا ما، لقد صمدت سورية طوال العقود الماضية بفضل عنصرين رئيسيين أولهما تماسك شعبها على رغم تعددية فرقه ونحله، وملله عرقيا ودينيا، وثانيهما قوة النظام الحاكم منذ تولي الرئيس الراحل حافظ الاسد السلطة في بداية السبعينات من القرن الماضي، باسم حزب البعث العربي الاشتراكي وقد ظل شخصيا في السلطة لنحو ثلاثين عاما هي الاطول منذ الاستقلال السوري.
ولعل أكثر ما ساعد سورية على هذا الصمود الاسطوري هو أولا التضامن العربي الفعال - آنذاك - على رغم التمزق الذي اصاب هذا التضامن بفعل اتفاق كامب ديفيد 1978 ومعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية العام 1979، ومن ثم افتراق القيادتين السورية والمصرية المتحالفتين في حرب أكتوبر 1973 المجيدة.
وساعدها ثانيا المناخ الدولي الساري آنذاك، مناخ الحرب الباردة التي كانت لاتزال مشتعلة بين الاتحاد السوفياتي قبل انهياره المدوي وبين المعسكر الاميركي الأوروبي، اذ كانت موسكو الحليف الأقوى ومصدر التسليح الأهم والضامن الدولي لأمن سورية الى حد كبير.
الآن تغيرت قواعد اللعبة... انهار الاتحاد السوفياتي الحليف الدولي ومصدر التسليح وانفردت أميركا بالعالم وحدها، وفرضت ارادتها وقراراتها، بل فرضت وجودها الاستعماري المباشر في العراق على الحدود السورية الشرقية، وتعملقت «إسرائيل» على الحدود السورية الغربية، فزادت شراسة وتعطشا للعدوان والحرب والتدمير، وهو أمر نفذته وتنفذه بانتظام ضد كل ما هو فلسطيني لكنها لاتزال تتطلع الى ممارسته مع سورية لكي تصفي أهم قلاع معاندتها وتحديها، مستغلة فقدان سورية لأهم حليف دولي والمصدر الرئيسي لتسليحها وكذلك فقدانها للتضامن العربي الفعال الذي كان... زمان!
فماذا بقي أمام سورية لتراهن عليه؟
لكي نجيب على هذا السؤال المقلق، والذي يتردد على السنة الجميع، نبدأ بالقول ان من بين المتغيرات الدولية التي حدثت بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي وشيوع موجات الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي الأوروبي الاميركي، تلك التي اكتسحت شظايا الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي وكذلك افريقيا وآسيا، وان ظلت تخاصم الدول العربية بلا سبب مفهوم.
وبصرف النظر عن استغلال أميركا لسلاح فرض الاصلاح الديمقراطي فرضا على النظم العربية ومعايرتها هي وحليفتها «إسرائيل» للدول العربية بأنها دول متخلفة قهرية مستبدة يحكمها طغاة فاسدون فإن الاصل والاساس في رأينا هو ان الحرية قيمة انسانية نبيلة وخالدة وسامية وحرية الانسان الفرد هي التي تصنع حرية المجتمع، وحرية المجتمع هي التي تبني الدولة القوية المتقدمة القادرة على مصادقة حلفائها باعتداد ومقارعة اعدائها بعناد.
أما عدا ذلك فإن اي مجتمع مهما يكن، قابل للاختراق والكسر من الداخل، بواسطة القوى الأجنبية، وخصوصا في العرص الحالي، الذي تنفرد به قوة دولية طاغية شرسة والذي يزدحم بكل وسائل وطرق الاختراق الحديثة من السياسية والاقتصادية الى الأمنية والعسكرية والمخابراتية مرورا بالثقافية والاعلامية، ولعل ما حدث قبل عدة أسابيع من اضطرابات دامية في القامشلي والحسكة وحلب وعلى مقربة من الحدود السورية العراقية التي يحرسها جيش الاحتلال الاميركي، كان مجرد رسالة الى النظام السوري في دمشق اخطر من مجرد حرق العلم السوري ورفع العلم الاميركي هناك!
رسالة ضغط وابتزاز استغلت أوضاع الاكراد في سورية لاشعال الاضطرابات التي تقلق النظام وتخيفه في الوقت نفسه حتى يستجيب للمطالب الاميركية ومن يدري فقد يتطور الأمر غدا الى ما هو أخطر، ومن يدري متى وكيف تنقض «إسرائيل» على مصادر القوة السورية في غفلة من العالم، ولكن في حماية من سيدة العالم المنفردة بمصيره.
صحيح ان الجهود السياسية السورية لاعادة بناء علاقاتها بالولايات المتحدة على أسس جديدة وفق مبدأ «شعرة معاوية» التي ورثتها دمشق تاريخيا من مؤسس الدولة الأموية لكي تتفادى الضغوط الحالية وتنجو من مصايد الابتزاز الكثيرة، هي جهود بالغة الاهمية في الظرف الدولي الراهن، باعتبار واشنطن هي صاحبة القرار الدولي، وجارة سورية من الشرق «في العراق» والقادرة على كبح جماح العدوانية الاسرائيلية الشرسة في الغرب.
وصحيح ان محاولات سورية مع مصر والسعودية، لاعادة بناء تضامن عربي فعال، هي محاولات أشد أهمية وكلها أمور جادة تراهن عليها دمشق بقوة.
لكن الصحيح ايضا وأساسا هو ان تراهن دمشق أولا وعاشرا على على إعادة بناء العلاقات السليمة بين القوى السياسية والاجتماعية والثقافية السورية ذاتها، بأن تطلق الحريات وتصون الحقوق وتسقط كل القوانين والاجراءات الاستثنائية التي تقيد حرية المواطن... وحرية الوطن.
ومن باب المحبة والحرص نقول هذا عن سورية وعن كل دولة عربية نحبها... ننتقدها لنساعدها وننقذها.
قال الشاعر:
موقعي عندك لا أعرفه
آه لو تعرف عندي موقعك
مدير تحرير صحيفة «الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 600 - الثلثاء 27 أبريل 2004م الموافق 07 ربيع الاول 1425هـ