تملكتني الدهشة عند قراءتي لعنوان يتحدث عن تبرع احد المصارف تبرع بعشرين ألف دينار لـ «مؤسسة نقد البحرين»، وذلك لسببين، هما: قبول مؤسسة نقد البحرين المبلغ المذكور، وشعور المؤسستين بالسعادة بهذا الحدث، إذ يبدو ذلك جليا من موافقة المصرف المذكور ومؤسسة النقد على نشر الخبر في الصحافة. هذا لعمري يمثل شر البليّة، إذ إن «شر البلية ما يضحك» كما هو معروف، وقيام المؤسستين بنشر الخبر بلية مثيرة للضحك، وما سيأتي من الكلام كفيل بتوضيح ذلك.
إن سبب قولي إن الخبر يمُثل «شر البلية» هو كون مؤسسة نقد البحرين تقوم بدور المصرف المركزي الذي يسن القوانين التي تنظّم عمل المصارف ويتولى الإشراف عليها ويقوم بمراجعة وفحص وتدقيق حساباتها وسجلاتها. فإذا كان الأمر كذلك، فمن الخطأ الفادح أن تقبل المؤسسة هديّة أو مساعدة من أحد المصارف المذكورة.
والمنطق نفسه ينطبق على المصارف نفسها، فبحسب مبادئ المحاسبة والتدقيق لا ينبغي لمصرف أن يعطي أية مساعدة أو هديّة للجهة التي تقوم بالتدقيق على حساباته، ناهيك عن مؤسسة تقوم بسن القوانين التي تجبره على اتباعها وتقوم بالإشراف عليه.
يذكر أن مبادئ المحاسبة والتدقيق في دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدّة، تحتّم أن تقوم المؤسسة، كل فترة زمنية (كل خمس سنوات مثلا)، بتغيير المحاسبين القانونيين الذين يتولون عملية تدقيق حساباتها. وفي حال الشركات المساهمة تتطلب تلك المبادئ والقوانين من المؤسسة، أخذ موافقة المساهمين على توصية مجلس الإدارة بخصوص تعيين مراجعي حسابات جدد أو إعادة تعيين القدامى، بنهاية كل سنة محاسبية، والغرض من القيام بكل ذلك هو التقليل من فرص التواطؤ التي تزيد كلما زادت مدة تعاون المؤسستين فيما بينهما.
فإذا ألا يكفي الكلام السابق للتدليل على أن نشر الخبر المذكور يدخل في إطار «شر البليّة ما يضحك»؟
بقي قبل أن أنهي هذا الموضوع، أن أسوق، بحكم تجربتي كمدير أوّل سابق للتدقيق الداخلي مع مصرف من المصارف العالمية وبحكم تخصّصي في إدارة الأعمال، أمثلة أعطي من خلالها القارئ الكريم فكرة عمّا يمكن حدوثه، نتيجة قبول مؤسسة نقد البحرين المساعدة المذكورة، على رغم كون المساعدة، كما جاء في خبر صحافي، أعطيت لغرض محدّد وهو مساندة مشروع الموارد البشرية بالمؤسسة، إذ إن النتيجة النهائية هي أن المساعدة تسلمتها المؤسسة بصفتها قائمة بأعمال المصرف المركزي. سأبدأ بإعطاء الفكرة عن طريق الأمثلة الآتية:
- من المعلوم أن المؤسسة تطلب من المصارف تزويدها بصفة دورية بكشوف بأسماء المقترضين الجدد الذين يزيد قرض كل منهم عن مبلغ محدد. ولنفترض أن المؤسسة قامت بالتدقيق على حسابات المصرف، فاكتشف أحد مدقّقيها أن سجلات المصرف الخاصة بالمقترضين المذكورين غير منسجمة مع الكشوف التي أرسلها المصرف إلى المؤسسة. أي أن سجلات المصرف تحتوي على أسماء لم تدرج في الكشوف المرسلة إلى المؤسسة أو كانت المبالغ الخاصة ببعض الزبائن أكبر من تلك التي أدرجت في الكشوف. في هذه الحال، بعد أن يقوم المصرف بتذكير المؤسسة بمد يد العون لها، ألا يمكن أن يحصل تواطؤ بين أحد(بعض مسئولي المصرف وأحد) بعض مسئولي المؤسسة؟ طبعا من الممكن أن يحدث ذلك، إذ إنه من الممكن أن يتملك الحياء واحدا أو أكثر من مسئولي المؤسسة، فيؤثّر ذلك عليه/ عليهم نتيجة الطبيعة البشرية.
- قرأنا أخيرا أن المؤسسة بصدد وضع سقف أعلى للفائدة التي يمكن أن تتقاضاها المصارف التجارية على القروض الاستهلاكية. فماذا سيحصل لو تجاوز المصرف المذكور سهوا أو عمدا السقف المحدّد، علما أنه من المعروف أن طرق احتساب الفوائد بالنسبة إلى عامة الناس المقترضين تكون معقّدة جدا؟ في هذه الحال ترى من هي الجهة التي يمكن للمقترضين أن يركنوا إليها للتحقق من سعر الفائدة، بعد مدققي المصرف الداخليين، غير مؤسسة النقد، علما أن مدققي الحسابات الخارجيين ينصب تركيزهم على مدى مواءمة المعايير المحاسبية للمصرف للمعايير المحاسبية العالمية، ويتركون المهمة الكبرى عن كشف الأخطاء الأخرى التي توجد بالسجلات المحاسبية، للمدقق الداخلي! وهذا يرجعنا إلى إمكان التواطؤ بين المؤسسة القابلة للمساعدة وبين المصرف.
- المثالان السابقان يمثلان غيضا من فيض، فالأمثلة كثيرة، غير أنه لا يوجد داع إلى تعدادها، فما ذكر يكفي للتدليل على مدى الخطر الذي يحيق بالمواطنين وبغير المواطنين ممن يتعاملون مع المصارف، إذ يمكن أن ينتج تواطؤ ينتج عنه انهيار لأحد المصارف، ولربما أدى انهيار مصرف، لانهيارات أخرى نتيجة اعتماد المؤسسات الاقتصادية بعضها على الآخر، وفي ذلك خطر كبير على اقتصادنا الوطني. ربما يقول قائل إن في كلامي هذا بعض المغالاة، ولكن هل هذا القول صحيح؟ طبعا كلاّ، وذلك لأكثر من سبب. أول هذه الأسباب أن من يعرف ألف باء الاقتصاد يعرف أنه لا توجد مغالاة في ما قلته. وثانيها هو أن مصرفا من المصارف العاملة في البلد كان أوشك على الانهيار، وما أنقذه من مصيره المحتوم إلا السلطات بمبادرتها لإنقاذه، وكان السبب الرئيسي بحسب ما فهمناه من قراءتنا لما كتب عن محنته، هو سبب مشابه للسبب الأوّل المذكور أعلاه، أي عدم دقة المحتويات التي كانت تحتوي عليها الكشوف التي كان يرسلها المصرف بخصوص القروض المذكورة في مثالنا الأول. أما السبب الثالث، الذي يدلل على عدم وجود أية مغالاة فيما قلناه، فهو كون انهيارات المصرف في الولايات المتحدة الأميركية، تمثّل السبب الرئيس الذي تسبّب في حدوث الكساد العالمي الأعظم.
لكل ذلك أوصي بأن ترجع المؤسسة المبلغ للمصرف المتبرع في أقرب فرصة ممكنة، وألا تتقبل أية مساعدة في المستقبل من أية مؤسسة تخضع لرقابتها أو الإشراف عليها، بما في ذلك مؤسسات الصرافة وغيرها. وأوصي بأن لا تتكرر مثل هذه الممارسات الخاطئة في المستقبل.
كاتب بحريني
العدد 599 - الإثنين 26 أبريل 2004م الموافق 06 ربيع الاول 1425هـ