كل الظروف الاقليمية والدولية تخدم الحكومة الإسرائيلية الحالية. لهذا فإن الجانب الفلسطيني والعربي عليه أن يتوقع كل شيء من «شارون»، بما في ذلك التوسع في مسلسل اغتيال القيادات الفلسطينية، التي قد تشمل الرئيس ياسر عرفات. بل إن الظروف الراهنة توفر فرصة نادرة لأقصى اليمين الإسرائيلي لتحقيق مزيد من الأهداف التي يتضمنها برنامجه السياسي القائم على التوسع والسيطرة على الجزء الصغير المتبقي من أرض فلسطين. وإذ أصبح من المتفق عليه بين المراقبين النزهاء القول إن كل أشكال التسوية السلمية بمختلف مشاربها وأسمائها قد تبخرت عمليا، وإن العنف سيكون سيد الموقف خلال المرحلة الراهنة والمقبلة، فإن السؤال الأكثر أهمية: إلى أي مدى سيتمكن الفلسطينيون من الصمود، والمحافظة على بضعة الكيلومترات التي لا تزال تضمهم، في انتظار المعجزة؟
الإسرائيليون بجميع فرقائهم يحسنون استغلال الفرص، خلافا للعرب الذين يتميزون في المقابل بإهدار كل الطاقات وجميع الفرص. وقد مرت «إسرائيل» حكومة ونخبة ومجتمعا بظروف صعبة خلال السنوات الأخيرة، بسبب تنامي المقاومة الفلسطينية ولجوئها إلى أسلوب العمليات الاستشهادية التي تعتبر من الأسلحة التي تخرج عن نطاق السيطرة، وبالتالي يصعب مصادرتها أو القيام بحظرها. وبما أن هذا النوع من المقاومة غير متفق عليه فلسطينيا وعربيا ودوليا، ويثار بشأنه جدل في أوساط حقوق الإنسان عندما يكون المدنيون هم الهدف، فقد بقيت الأجهزة الإسرائيلية المختلفة تنتظر المناسبة لمصادرة هذا السلاح، وتحويله ضد الفلسطينيين وقضيتهم. وتوافرت الفرصة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. وهنا التقط العقل الصهيوني ممثلا حاليا في «شارون» هذا الخيط، وبدأ يشتغل بشكل مكثف لربط ما حدث في أميركا بما يجري في فلسطين. ولم يتطلب الأمر الكثير من الجهد، إذ إن العقل الغربي أصبح مهيئا لقبول الخلط بين الأطراف والمفاهيم والملفات، وهو ما عجل بإدراج حركات المقاومة الفلسطينية ضمن خانة الحركات الإرهابية وفق التصنيف الأميركي.
المشكلة التي يعمل الإسرائيليون على مواجهتها عن طريق القوة، ويحاول الأوروبيون التعامل معها بأقل حدة وإن كانوا لا يختلفون مع حكام تل أبيب في تشخيص خطورتها المستقبلية، تتمثل في التغيرات الجارية في موازين القوى داخل الساحة الفلسطينية. لقد تحولت حركة حماس إلى قوة وطنية ضاربة، مقابل تراجع كبير لحركة فتح، وتآكل سريع للسلطة الوطنية. لقد كانت تجربة إقامة سلطة في ضوء نتائج اتفاق«أوسلو» سيفا ذا حدين. فمن جهة أضفت تلك التجربة على الكيان الفلسطيني بعض مواصفات «الدولة»، وذلك من خلال العلاقات الدولية التي أقيمت خلال السنوات الأخيرة، والبناء المؤسساتي الذي تم داخل الضفة والقطاع. لكن في المقابل، أوقعت التجربة الكثير من القياديين في وهم كبير، وظن بعضهم أن نهاية الصراع مع الدولة العبرية قد اقترب، وبالتالي انطلقت الرغبات الفردية لافتكاك الغنائم. لقد تغير سلوك الكثير من الكوادر الفلسطينية ونظرتهم لأنفسهم ودورهم ومجتمعهم، فغادروا إطار «الثورة» وفلسفتها الأخلاقية والتنظيمية التي ترتكز على القدوة والنضالية والانضباط، إلى إطار الحكم / الدولة، من دون أن تتوافر الشروط الفعلية لذلك. ولم تمض سوى عشرية واحدة حتى برزت على سطح المجتمع الفلسطيني في غزة وغيرها مظاهر اجتماعية لم يكن يعرفها الناس من قبل، وحدثت في الأثناء صدمة قيمية وأزمة أخلاقية أقضت مضاجع الفلسطينيين، وشككتهم في الكثير ممن كانوا يتصدرون النضال. صحيح أن الأزمة الأخلاقية كانت سابقة لمرحلة أوسلو، وهناك من يعيدها إلى المرحلة اللبنانية، لكنها كانت أقل حدة، وكانت مظاهرها تتطور بعيدا عن المجتمع الفلسطيني الداخلي.
استغل الإسرائيليون هذا الانقلاب الاجتماعي، باستعمالهم وسائل عدة لتحجيم السلطة الجديدة، ومزيد إضعاف لصدقيتها. وجمعوا لتحقيق ذلك بين الإغراء، والاختراق واستعمال القوة، حتى نجحوا إلى حد كبير، خصوصا مع قدوم شارون، في تفكيك الأجهزة الفلسطينية وتدمير البنية التحتية وتقسيم الارض والسكان، وصولا إلى تصفية المئات من النشطاء.
وفي المقابل وجدت السلطة نفسها عاجزة عن الرد والدفاع عن مكتسباتها. لكنها حافظت على بعض الجوانب الرمزية المهمة، ولم تتورط في الفخ الذي كانت تجرها إليه كل من الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية، من خلال تحريضها على تصفية المقاومة، وفي مقدمتها القوى الإسلامية ممثلة في «حماس» و«الجهاد ».
من جهتها استفادت الحركة الإسلامية، وخصوصا «حماس» من الأزمة الهيكلية التي تعيشها القوى السياسية التقليدية على الساحة الفلسطينية. فهي من جهة استمرت في منهجها التربوي القائم على صوغ الكادر المتمسك بالانغراس في المجتمع، وتوفير شروط «القدوة». كما تمسكت بالروح القتالية، وهما العاملان الرئيسيان اللذان مكناها اكتساب شعبية سريعة، وتحولت إلى رقم لم يعد بالإمكان شطبه أو تجاوزه ببساطة. وهكذا بدا الأمر واضحا سواء للإسرائليين أو حلفائهم الغربيين. من جهة تراجع متسارع للقوة السياسية والاجتماعية التي أفرزتها مرحلة أواخر الستينات والسبعينات وصولا إلى التسعينات، وهو جيل تتجه رموزه النيرة والنظيفة نحو الانقراض بحكم السن والعجز، ليحل محله جيل آخر تستوي فيه الرؤوس وينخره الصراع والتناحر على الزعامة والفتات المتساقط. وفي المقابل، قوة عسكرية وسياسية وثقافية، متماسكة إلى حد ما، مرشحة لتفتك القيادة أو أن تكون عمودها الفقري. وهو ما أكده آخر استطلاع للرأي تم قبل اغتيال عبدالعزيز الرنتيسي، وأظهر أن الغالبية الفلسطينية تؤيد حركة «حماس» التي «تجاوزت شعبيتها للمرة الأولى حركة «فتح». وهي قوة لم تبد المرونة المطلوبة، وترفض التفاوض واستراتيجيات التنازلات، ولا تملك برنامجا سياسيا يمكن أن يقبله الطرف الإسرائيلي وتطمئن له القوى الغربية. إنها قوة تطفو على السطح بسرعة في وضع إقليمي ودولي متوتر ضد كل ما هو «إسلام سياسي».
في هذا الإطار أصبحت «تصفية» حركة «حماس»، أو بحسب التعبير الأميركي المستعمل «تحجيمها» هدفا استراتيجيا، و«ضمانا» من بين ضمانات المرحلة المقبلة. هذا ما كشفت عنه مصادر قريبة من الإدارة الأميركية، وهذا ما أقنع به شارون بوش خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، وهذا ما يمكن أن يستسيغه الاتحاد الأوروبي، على رغم تحفظاته على بعض الأساليب التي لجأت إليها الحكومة الإسرائيلية. ويبقى السؤال الذي تصعب الإجابة عنه الآن هو: كيف ستواجه حماس هذا المخطط، وكيف ستتعامل معه بقية القوى الفلسطينية؟ المصلحة تقتضي قيام تحالف متين في هذه المرحلة بين «فتح» و«حماس»، لكن تقف دون تحقيق ذلك عوائق وخلافات مهمة تكتيكية واستراتيجية. وفي المقابل لن يكون تحجيم «حماس» في صالح «فتح» أو القضية الفلسطينية كما يعتقد البعض. لأن ذلك سيزيد من فتح الشهية، ويشكل مقدمة جديدة لمرحلة ابتزاز وتهديد لن يتوقفا إلا بعد سيطرة «إسرائيل» على كامل فلسطين
العدد 599 - الإثنين 26 أبريل 2004م الموافق 06 ربيع الاول 1425هـ