تفجيرات الرياض الأخيرة التي استهدفت مقرا للشرطة وقتلت وجرحت عشرات الأبرياء لا يشفي فيها السؤال عمن الفاعل، فالفاعل له عنوان معروف، أما السؤال المهم فهو: لماذا الفعل؟ ولأي هدف؟
يحار المراقب حتى وان نظر إلى الموضوع بعين باردة، أن يتعرف على الأهداف المرادة من فعل كهذا، أو الأفعال السابقة التي حوّلت بلدا آمنا إلى ساحة معركة تتابعت في الأشهر القليلة الأخيرة لتشكل ظاهرة تستدعي البحث عن دوافعها بكل دقة.
الظاهرة الأعم هي قتل النفس، أو الهجمات الانتحارية، إن صح التعبير، وهو عمل مفهوم - وإن كان ذلك غير مُسوق - حين يتم مثل هذا الفعل في بلد محتل مثل فلسطين، ويكون مفهوما إلى درجة أخرى أقل حينما يحدث في بلد مثل العراق، يستطيع الإنسان أن يرى المطالب الواضحة والكامنة من جراء أفعال كهذه، كما يستطيع أن يفهم الفرق في تلك الساحات بين وجود معسكرين: معسكر للعدو ومعسكر آخر مناوئ له، إما أن يحدث في بلد مثل المملكة العربية السعودية لها من المقومات الكثير ما يمنع مثل هذا التفكير، عدا الفعل، فإن ذلك يحتاج إلى إعمال العقل قبل أي شيء آخر.
من يعرف المملكة العربية السعودية يستطيع أن يرى من دون شوائب أن قنوات الوصل والاتصال ليست مقفلة بين الحاكم والمحكوم، بل ان هذه القنوات تطورت من علاقات الوجه بالوجه السابقة، إلى مساحات أوسع من وسائل الاتصال الحديثة، خصوصا الصحافة السعودية، التي يرى المتابع لها أنها تزخر بالآراء المختلفة والناقدة، بل والمتناقضة أحيانا، وكثيرا ما شهدنا، سواء في الصحافة السعودية الداخلية أو الخارجية الكثير من النقاش الذي يدور بحثا عن الأوفق والأصلح في إدارة المجتمع، وقد تكثف مثل ذلك النقاش حتى ساهم فيه عدد من المسئولين، وزادت من ذلك التواصل وسائل اتصال أخرى مثل الانترنت التي يرى المتتبع لها الكثير من النقاش المختلف والمتفاعل، وكثيرا منها تغفل الأسماء، تتناول الكثير من القضايا في المجتمع السعودي.
ويقيني من جهة أخرى أن هناك فئة واسعة من الطبقة الوسطى السعودية التي نمت في السنوات العشرين الأخيرة على الأقل، وحاز أبناؤها عن طريق العلم والمعرفة الكثير من الاحترام والاعتراف في شئون مهنية شتى، منها الطب والهندسة والبحث العلمي وشئون الإدارة والتقنية الحديثة. فهناك قطاعات كاملة في الاقتصاد الحديث القائم على المعرفة يدار بأيدٍ سعودية شابة، كما أسهمت المرأة السعودية في الندوات العامة في داخل وخارج المملكة، بجانب مساهماتها في الإعلام والتعاليم والمهن الحرة.
ومثل أي مجتمع إنساني يصادف المجتمع السعودي بعض المشكلات مثل مشكلات الفقر والبطالة وسوء في الإدارة، وهي مشكلات لا تغيب عن متخذ القرار، وربما ضرب مثال حي على متابعتها عندما قام الأمير عبدالله بن عبدالعزيز باعتباره أحد المسئولين الكبار في الدولة بزيارة لأحد أحياء الرياض الفقيرة منذ أكثر من عام تقريبا، وأعاد أحداث الزيارة التلفزيون السعودي تكرارا، في موقف يقول للداني والقاصي إن هناك مشكلات إنسانية وهناك وعي بأهمية القضاء عليها، وهناك جهد لوضع البرامج لتفادي أمثالها، والمجتمع السعودي مثله مثل كثير من المجتمعات العربية ليس محصنا ضد الإرهاب الأعمى.
الطبقة المتعلمة تعليما حديثا من النساء والرجال في المملكة العربية السعودية وتراكم خبرتها تحدثنا عن انجاز، وان عرفنا أن الكثيرين من هؤلاء هم الجيل الأول أو الثاني الذي تتاح له فرص الدراسة المنهجية المنظمة الحديثة، نعرف كم من الإنجاز تم في سبيل تحديث الدولة والمجتمع في وقت قصير نسبيا.
السؤال: لماذا يقوم هذا البعض بمثل هذه الأعمال الانتحارية العدمية، ولأية أسباب؟ ذلك سؤال مهم وأساسي لا تنفع فيه الكلمات المجاملة، فهو موجود وماثل ويستهلك الكثير من الطاقة والجهد من الإدارة لملاحقته، كان يمكن أن تصرف هذه الطاقة في أعمال تنموية أخرى كثيرة ذات فائدة ونفع؟
هناك ثلاث حلقات يجب النظر إليها، وربما تعرض هنا بالتتابع بسبب أهميتها في خلق بيئة الإرهاب.
هناك أولا التثقيف، فقد ألمحت سابقا في كتابات أخرى ما ألمح غيري، إلى أن هناك تثقيفا طويل المدى ومركزا من قبل البعض، لاتزال مع الأسف تنسحب ذيوله على طائفة كبيرة من الشباب، يمكن متابعة رموزه وشعاراته في بعض وسائل الإعلام أو مؤسسات التعليم، تغري شبابا غضا بمقولات تلصق بالإسلام في تفسير قسري، هذا التثقيف يعزز «فكرة العنف»، وهو فكر يكرس الانفصال تماما عن الواقع، ويعيش معتنقوه في عصر آخر، ويسعون إلى إعادة المجتمع بالقوة والإرهاب إلى ذلك العصر المتخيّل في أذهانهم، وهي أفكار لا تتسق مع العصر لا من حيث الوسائل ولا من حيث الأهداف.
تلك حقيقة يجب ألا نتجاوزها، فهذا تثقيف طويل الأمد تغلغل في مؤسسات فاعلة وموجهة للرأي العام كما يحدث في وسائل إعلامنا الكثيرة، وكلما نظرنا إلى تلك الحقيقة مجردة عن المزخرف من القول او الانحراف في التأويل، قربنا من وضع اليد على لب القضية التي نحن بصددها. ولا يستطيع احدٌ أن يدعي أن اقتلاع فكرة العنف في التثقيف سهل وميسور، حيث التشابك هنا معقد ومتداخل وصعب التفريق، فبين «التيسير» و«التعسير» جهد يجب أن يبذل في هذا القطاع التثقيفي والثقافي والإعلامي الأوسع، هو أحد أهم المفاصل التي يجب أن ينظر إليها في محاربة الظاهرة الإرهابية وينبغي أن تقتحم بشجاعة.
لقد سقط الكثير من شبابنا لسبب أو لآخر في فخ هذا التثقيف الطويل والمستمر المغيب للعقل، وهيأ هؤلاء الشباب كي يصبحوا صيدا سهلا، أو يكون بعضهم صيدا سهلا للتطرف لأنهم لم يروا في تلك الهجمة التبغيضية ما يساعدهم على استعمال العقل الذي كرّم به الله عز وجل الإنسان، فاستلب العقل من جراء هذا الهجوم التثقيفي، وتحوّل ذلك الشاب إلى آلة صماء. ولعل بعض الأشرطة التلفزيونية التي أذيعت سابقا بعد العمليات الانتحارية من بعض محطات الفضاء العربي المتلفز، تقدم لنا دليلا واضحا على مسح العقول وتغييبها، وفقدان الهدف والغرض إلا من شعارات عامة ضبابية.
إذا نظرنا إلى الحلقة الأخرى بعد التثقيف فإنها حلقة التمويل والاحتضان، فالذي يقوم بمثل هذه الأعمال الهادمة لمقومات المجتمع، يحتاج إلى الكثير من الدعم المالي لشراء الأجهزة والسيارات ومواد التفجير، وتأمين الأوكار الآمنة، وهي لا تأتي من دون إنفاق مال، وهو مال ليس بالقليل، وان نظرنا إلى مثل هذه الأعمال في مجتمعات أخرى نرى كم من المال انفق في التحضير لمثل تلك الأفعال، فمن أين جاء هذا المال، ومن هم الممولون، وكيف يتم التمويل؟ ثم ماذا عن «الاحتضان المعنوي»؟، وهو أمر يجب أن تلعب فيه وسائل الإعلام والمثقفون خصوصا الدور الرئيسي، فتخفيض درجة التعاطف إلى الصفر بإدانة العنف العشوائي المشاهد، يحتاج إلى إعمال العقول قبل الألسن، وتحويل المتفجرات إلى شفرات حراثة وكراسي تعليم.
أما الحلقة الأخيرة فهي حلقة التدريب، فالأعمال التي نراها أمامنا تحتاج إلى تدريب ذي مستوى عال بدءا من صناعة المتفجرات، إلى إخفائها إلى نقلها إلى استخدامها، كل ذلك يتطلب تدريبا عالي المستوى في الرصد و التحضير.
من الحلقات الثلاث، التثقيف والتمويل والتدريب، نستطيع أن نستنتج أن المنفذين لمثل هذه الأعمال الإجرامية هم حلقة من حلقات عدة بعضها قريبة من حلقات التنفيذ وبعضها بعيدة نسبيا عنها.
لا يجادل عاقل في أن هذه الحلقات هي أقلية في المجتمع، ولكنها أقلية نشيطة وعالية الصوت والفعل، تتغذى على حلقات أوسع منها تساعدها إما بسذاجة أو بقصد، وهي حلقات تريد إرغام مجتمع بكامله على الرضوخ لأفكارها في إرغامه لعيش عصر آخر، هذا إن كانت لها أفكار بذاتها غير المزايدة في الشعارات.
صوت الغالبية الصامتة ذات المصلحة الحقيقية في تطوير المجتمع والسير به إلى الأفضل هو المطلوب أن يظهر عاليا لتجفيف منابع التبرير والتسويق.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 599 - الإثنين 26 أبريل 2004م الموافق 06 ربيع الاول 1425هـ