تشهد البحرين حدث تعيين أول وزيرة في تاريخها بتكليف الدكتورة ندى حفاظ مسئولية وزارة الصحة. وفي مثل هذا الوقت والظرف، تكثر التهاني والتبريكات ويكثر المهنئون. وسرعان ما ستجد الوزيرة الجديدة نفسها غارقة في بطاقات التهنئة بالمنصب الجديد التي هي أهلٌ له، وستحفّ بها مجموعة جديدة من الناصحين والمتقربين والمتزلفين، كلٌ يقرب النار لخبزه، وهي من سمات المراحل الانتقالية التي تمر بها أية وزارة أو مؤسسة أو هيئة في المجتمع البشري.
الوزارة مرّت بهزاتٍ أربكت العمل، وسياسات الوزير السابق خليل حسن أثارت الكثير من الجدل والغبار وتضاربت الآراء في تقييمها. واحتاج الأمر إلى مرور وقت طويل قبل أن ينجلي الغبار عن حقائق الوضع للناس. ربما يكون هناك أناسٌ مظلومون، وربما يكون هناك أناس متضررون عن غير وجه حق، ولكن من المؤكد أن هناك متلاعبين، سبق أن استغلوا مواقعهم في الوزارة لزيادة الإثراء ولو على حساب المرضى وتردي الخدمات الصحية في البلاد. وليس من الغريب أن تسمع بعض هؤلاء يقول لك في العيادة الصباحية: «تعال إلى عيادتي في المساء لتحصل على علاج أفضل»، أو يقول: «إذا أردت إجراء العملية لابنتك فعليك أن تدفع للطب الخاص لأضمن لك السرير غدا، وإلاّ عليك الانتظار تسعة أشهر»! وهو ما جعل الوضع أشبه بالضيعة الخاصة لهؤلاء.
مثل هذا الوضع لم يكن خافيا على الناس، فكل الامور في هذا البلد معروفة للجميع، ليس بيننا أسرار مدفونة تحت الأرض، وكل ما حصل انما يشبه قنبلة صوتية أرعبت قلوب البعض ممن تحسسوا رؤوسهم.
طوال الفترة السابقة سمعنا الكثير من التذمر والتباكي على المجد الغابر، ويقينا لو كانت هناك فئة أخرى من العاملين بالصحة (صيادلة أو ممرضات أو عمال أو أطباء جدد) أضعف عضلات من هؤلاء لما سمعنا كل هذه الضجة التي انتهت بإقالة الوزير. والآن من الطبيعي أن يسعى هؤلاء إلى استرداد مواقعهم السابقة، واسترجاع مكاسبهم المتضررة، فتراهم من أوائل المبادرين لمباركة «الحقبة الجديدة» وقبل أن تتضح معالمها أو نعرف خطوطها السياسية العامة. المهم أن يعود النهر إلى مجراه السابق بعد أن جففته الشهور العجاف!
وفي هذه المرحلة الانتقالية، ولكي لا نخدع مرتين، من الواجب المطالبة بألاّ تكون معالجة الأمور بطريقة الفعل ورد الفعل، أو الانقلاب من اليمين إلى اليسار، وانما تؤخذ الامور بالروية التي عرفناها في الوزيرة الجديدة، على أن تكون خطة «التصحيح» قائمة على أساس البناء على ما تم إنجازه من أمور صحيحة، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبت أو إعادة المظالم إلى أهلها إن وجدت. وكلنا يعرف أن من الامور التي أثارت كثيرا من الجدل في الوزارة السابقة هي قضية التلاعب الذي اتهم به عدد من الاستشاريين الأرفع صوتا بالوزارة. وهو أمرٌ يعرفه الناس جميعا ولم يكن سرا مجهولا كشفه الوزير.
ومن باب الإنصاف، ينبغي القول إن من بين القرارات الشجاعة التي اتخذها الوزير السابق، ويمكن لمن يراجع مجمع السلمانية الطبي الاطلاع عليه معلقا في الأجنحة، التعميم رقم CEO/024/2004 الصادر في الخامس عشر من الشهر الماضي، المتعلق بمواعيد مرضى العيادات الخارجية والعمليات الجراحية وفتح ملفات للمرضى «حسب النظام المتّبع في المجمع دون التدخّل بأي صورة من قبل الأقسام الأخرى». وفي اليوم التالي مباشرة صدر تعميم رقم CEO/025/2004، بضرورة «الالتزام بالأنظمة التي تمنع إعطاء الاولوية في تلقي العلاج للمرضى المحوّلين من قطاعي الطب الخاص والمحدود، ويتم إدراجهم إلى مكتب إدخال المرضى بحيث يتم تسجيلهم حسب نظام التسجيل المركزي، مع مراعاة أولوية الأحقية، ومن دون تدخل الجهاز الطبي والتمريضي والإداري».
ومهما قيل عن أخطاء الوزير السابق، وما سيقال عنه أكثر بعد إقالته بطبيعة الحال، إلا أن مثل هذين التعميمين من النقاط التي تحسب في سجلّ إنجازاته، لأنهما يعتبران من القرارات الجريئة التي جاءت لتصلح خللا كبيرا في الأداء العام بالوزارة، وتقع ضحيته الشريحة الواسعة من المواطنين الذين لا تتحمل موازنتهم الهزيلة دفع عشرين دينارا لفتح ملف في العيادة الخاصة، أو تحمل نفقات العلاج في الطب الخاص. ومهما قيل ويقال عن «الحقبة السابقة»، فان من المأمول ألا يجري التراجع عنها في العهد الوزاري الجديد، وخصوصا أنها تصب في مصلحة عشرات الآلاف من المواطنين الفقراء الذين لا تزيد رواتبهم عن 120 دينارا، وتحفظ حقهم في العلاج المجاني الذي تتكفل به الدولة. ولا ننسى أن هذين التعميمين يلتقيان في الصميم مع عهد الشفافية والإصلاح الذي ينشده جميع من يريدون الخير لهذا البلد الطامح للنهوض من كبواته التي أخرته لعشرات السنين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 599 - الإثنين 26 أبريل 2004م الموافق 06 ربيع الاول 1425هـ