المجتمع البحريني حيوي، وهو الأكثر حيوية في جميع دول مجلس التعاون الخليجي. ومن طبيعة الحيوية ان تختلف الآراء وتتدافع فيما بينها، وكل ذلك مقبول مادام الاختلاف في الإطار السلمي. فالناس مختلفون في أذواقهم وأفكارهم وسبل حياتهم. وهذا الاختلاف ليس جريمة يعاقب عليها المرء مادام حق الاختلاف والتعدد في الرأي والممارسة مسموحا به، ويسير بحسب ضوابط يلتزم بها الجميع.
الطرح النظري الذي آمن به فلاسفة كثيرون وعبروا عنه بـ «المدينة الفاضلة» منذ 25 قرنا ليس عمليا ولا يمكن تحقيقه. فأفلاطون نظر إلى «الجمهورية» التي تحتوي على المجتمع المثالي المتمثل في رابطة تعاونية بين الناس، توجههم إلى الحياة الأفضل باستمرار، بقيادة أفضل «فيلسوف» يوجد في المجتمع.
النظرية نفسها رفعها قساوسة مسيحيون لاحقا عندما تحدثوا عن «مدينة الله» مع اختلاف في القائد الذي يجب ان يكون «قديسا»، وانتقلت الفكرة لاحقا لدى فلاسفة المسلمين الذين تحدثوا عن الفكرة نفسها أيضا، رغم ان الرسول (ص) طرح فكرة عملية (وليست نظرية) عندما اسس دولة الرسالة في «المدينة المنورة» التي اختلفت عن تنظير «المدينة الفاضلة» و«مدينة الله». فـ «المدينة المنورة» قامت على اساس «صحيفة المدينة» التي تعتبر اقدم وافضل وثيقة دستورية للتعايش السلمي الذي يعترف بالتعددية الدينية والمجتمعية. مع ذلك فان كثيرا من المسلمين اغفلوا فكرة «المدينة المنورة» وفضلوا عليها نظرية «المدينة الفاضلة».
على الأرض الأمر يختلف تماما، فلم توجد حتى الآن مدينة فاضلة واحدة، يحصل فيها الوئام التام وتسمو فيها «الحكمة» و «الفيلسوف» الذي يعلم ما لا يعلمه الآخرون. وبالتالي اتجهت الانسانية إلى مفهوم التعددية والقبول بالاختلاف، شريطة ان يكون ذلك ضمن قواعد متفق عليها وشريطة الا تحرم أية فئة من حقها في ممارسة ما تؤمن به مادام لا يخل بالأمن العام ومادام لا يعتدي على حق فئة أخرى في المجتمع.
البحرين تشهد حراكا من كل جانب هذه الأيام، وكلها نافعة للبحرين اذا تحملت بعضها الآخر. فمن جانب دشنت الجمعيات المقاطعة الأربع بمباركة عدد من علماء الدين العريضة الداعية إلى اجراء تعديل دستوري بحسب نص دستور 1973 وميثاق العمل الوطني، ونحمد الله ان العملية تتم بسلام من دون تحشيد ضد الدولة وهو الأمر الذي كان سيعوق طرحها، لأن الدولة تقوم على أساس حفظ الأمن والسيادة وتمرير قرارات القيادة العليا، وهذا هو شأن الدولة في أي زمان ومكان. ومع اختلافنا مع وجهة نظر وزارة العمل، الا اننا نأمل ان تستمر الامور كما هي عليه الآن من دون تحشيد او تصعيد.
في الوقت ذاته ينشط مجلس النواب في أول استجواب منذ بدء التجربة البرلمانية الحالية في العام 2002، وأي شخص يتصور ان هذا الاستجواب مفتعل، فإنه شخص يعيش الوهم في حياته. فالمساءلة حقيقية بحيث ان التعديلات الوزارية تم تأجيلها إلى حين الانتهاء من الاستجواب لكي لا تتهم الحكومة بأنها هربت من المساءلة.
يصاحب كل ذلك حركة لحقوق الانسان هي الأهم منذ الانفتاح. فلقد تمكنت الجمعية البحرينية لحقوق الانسان من فتح أبواب الحوار مباشرة مع أهم وزارتين معنيتين بحقوق الانسان: وزارة الخارجية لأنها المسئولة عن تنفيذ الاتفاقات الدولية، ووزارة الداخلية لأن أية تجاوزات أو محافظة على حقوق الانسان ستبدأ من هذه الوزارة بعينها. وتصاحب ذلك حركة دؤوبة لتطوير العمل النقابي العمالي، والعمل النقابي المهني، والاتحاد النسائي والاتحاد الطلابي، واتحاد الجمعيات التعاونية، واتحاد الصناديق الخيرية... وفي الوقت ذاته، ينشط القطاع الاقتصادي وتتحرك عجلة التنمية مرة أخرى في عدة جوانب.
إن أي منصف لابد وان يعطي البحرين حقها من الثناء وأملنا ان يستمر الجميع في الالتزام بالنهج السلمي والحضاري في العمل حفاظا على التعددية من جانب، وحفاظا على تنمية البلاد من جانب آخر
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 596 - الجمعة 23 أبريل 2004م الموافق 03 ربيع الاول 1425هـ