من يصل بالطائرة هذه الأيام إلى مطار فرانكفورت الدولي، يشاهد في الطريق إلى باب المغادرة مجموعة من طائرات النقل العسكرية الأميركية من طراز جالاكسي 5 المصبوغة بلون رمادي داكن وعليها عبارة: السلاح الجوي الأميركي. صحيح أن ألمانيا رفضت المشاركة في حرب العراق لكنها تعهدت بتقديم مساعدات لوجستية، منها وضع مطاراتها وقواعدها في خدمة القوات الأميركية. ومنذ تصاعد أعمال العنف في العراق وتصعيد المقاومة ضد الاحتلال، زادت حركة الطيران بين العراق والولايات المتحدة عبر مطاري رامشتاين وفرانكفورت. وعادة ما تقلع طائرات السلاح الأميركي ليلا باتجاه الضفة الأخرى من الأطلسي حاملة صناديق خشبية فيها أشلاء الجنود الأميركيين التي تنقل سرا من العراق.
وقد تحدثت مجلة «دير شبيغل» في عددها الأخير عن ما وصفته فيتنام بوش، وعلى الغلاف صورة جندي أميركي يبكي أحد رفاقه الذي سقط على أرض فيتنام بوش. وقد وعد الرئيس بوش بعودة من وصفهم أبطال الحرب حين أعلن في الأول من مايو/ أيار الماضي من على متن حاملة الطائرات (أبراهام لنكولن) نهاية المعارك الرئيسية لحرب العراق، ثم بدأت حرب أخرى بوصول طائرات جالاكسي وهي تنقل النعوش إلى قاعدة دوفر العسكرية في ولاية ديلاوير حيث تؤدي الصلاة على أرواح القتلى، يعقبها عملية التعرف على هويتهم ثم تسلم الصناديق الخشبية إلى الأهل. ولا يسمح للصحافيين بزيارة القاعدة والتصوير فيها ممنوع قطعا. في هذا المكان تحصي الولايات المتحدة خسائرها، وهنا يحط أبطال الحرب في نهاية رحلتهم الأخيرة. ومع ذلك لم يشارك الرئيس بوش حتى اليوم في جنازة جندي، وتفعل وزارة الدفاع كل ما بوسعها كي لا يجري الحديث عن النشاط الدائر في قاعدة دوفر، لأنه ليس من صالح بوش الذي يخوض حملة إعادة انتخابه إثارة موضوع الخسائر البشرية التي يتكبدها جنوده في العراق. وحتى الآن يلتزم الرأي العام الأميركي الصمت لأن هناك من يقول له إن الخسائر التي تتكبدها الولايات المتحدة لا تقارن بما خسرته في حرب فيتنام، لكن كلمة «فيتنام» بدأت تتردد على ألسنة سياسيين وإعلاميين في أميركا وأوروبا، فكم كان المستشار الألماني غيرهارد شرودر على حق حين رفض إشراك جنود ألمانيا في الحرب، كما قرر رئيس الوزراء الإسباني الجديد خوسيه ثاباتيرو في اليوم الأول لتسلّم منصبه أن يصحح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه سلفه خوسيه أثنار بوقوف إسبانيا إلى جانب بوش متجاهلا رغبة الشعب بعدم المشاركة.
ولا يعرف كثيرون أنه محظور على العسكريين الأميركان استخدام كلمة فيتنام، لكن بمجرد ان يزيد عدد الصناديق الخشبية المرسلة من العراق سوف تعود الذكريات الأليمة للأميركان، الذين احتاجوا سنوات طويلة حتى تعافوا نوعا ما من أثرها. وحتى الآن سقط أكثر من 600 جندي بعد إعلان بوش نهاية العمليات في العراق، ويقوم الجنود الأميركان بتطويق الفلوجة والنجف ويقتحمون المنازل الشعبية في عتمة الليل بحثا عن سلاح وعدو وهمي. ويتهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أجهزة الإعلام العربية بما وصفه بالمبالغة في الحديث عن ما يجري داخل العراق، ويفوته أنه ليس هناك ما يشير إلى نهاية قريبة للحرب في الافق. وقد زاد الوضع سوءا إعلان بوش تأييده لخطة شارون في ضم مناطق في الضفة الغربية لـ «إسرائيل»، ما عزز الرأي بأن حرب العراق قامت من أجل مصلحة «إسرائيل». وكان عضو مجلس الشيوخ في ولاية ماساشوسيتس الديمقراطي إدوارد كنيدي (شقيق الرئيس الراحل جون كنيدي)، أول من ذكر كلمة «فيتنام» المرعبة، حين قال أمام جمع في مؤسسة بروكنغز: «لقد قطع الرئيس كل صلة مع شعبه وتسبب في عزلة السياسة الخارجية... هذا البلد يحتاج إلى رئيس جديد»، ثم فجر قنبلته: «العراق فيتنام بوش». وفي مؤتمر صحافي رد بوش متهما خصومه بتجاهل رأيه بأن تحرير العراق خدمة كبيرة للشعب العراقي، لكن حوادث العراق تثبت أنه على خطأ، وأن وقوع الولايات المتحدة في مستنقع فيتنام جديدة أصبح حقيقة وليس مسألة ظنون. فالمهمة التي قال عنها إنها انتهت في الأول من مايو لم تنته، فيما يجري الكشف عن عدد الجنود القتلى مع الحرص على عدم الكشف عن عدد القتلى في صفوف المدنيين العراقيين، خوفا من عودة ذكريات حرب فيتنام. وعندما استفحلت الحرب، خلت الشوارع من الناس وفر الجنود العراقيون الذين جندهم الأميركيون بمجرد سماعهم الطلقات الأولى، في الوقت الذي بدأت دول أجنبية تسحب رعاياها، ونقلت منظمة الصليب الأحمر الدولي معظم موظفيها إلى العاصمة الأردنية. وفي أول رد عسكري على هجمات المقاومة في الفلوجة تم استخدام قنبلة زنتها ألف كغ. ومثلما هب ثوار «الفيتكونغ» الفيتناميين لمحاربة الجنود الأميركان، يتحرق مقاتلو المقاومة العراقية لمحاربة قوات الاحتلال. أما الزعيم الشيعي الذي خرج من بطن الأرض مقتدى الصدر، فقد نصح بوش بالانسحاب من العراق وإلا فإن بوش لن ينعم بالهدوء الذي يريده لخدمة حملته الانتخابية. والصور التي تبث على أجهزة التلفزة الأميركية ويظهر فيها ضحايا مدنيون وقتلى أميركيون ودمار في كل مكان، لا تهدد هدف بوش بالفوز بولاية ثانية في منصبه فحسب بل تعيد ذكريات حرب فيتنام إلى أذهان الأميركيين، حتى أصبح 51 في المئة منهم يرون أن بوش ارتكب خطأ حين أمر بغزو العراق، وكل أربعة أميركيين من أصل عشرة يعتقد أن العراق أصبح فيتناما جديدة.
أوجه مقارنة
ثلاثون عاما مرت على فرار آخر طائرة مروحية أميركية من على سطح السفارة الأميركية في سايغون في ختام المغامرة الفيتنامية التي أدت إلى انقسام المجتمع الأميركي. ويرى كثيرون علامات مشابهة بين حرب فيتنام وحرب العراق: الجنود الأميركيون يحاربون على بعد آلاف الكيلومترات بعيدا عن الوطن؛ الجنود الأميركان يحملون السلاح بوجوه المدنيين؛ الولايات المتحدة تمارس الاحتلال ضد إرادة الشعب العراقي وتدعم حكومة تعمل بإمرتها؛ عائلات الجنود تستقبل أولادها العائدين معلبين في صناديق خشبية. ولم يعد هناك سبب وجيه لهذه الحرب لأنه لم يكن هناك من سبب وجيه أصلا! فقد قامت على قاعدة من الأكاذيب أبرزها امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والصلة بتنظيم «القاعدة». في فيتنام سقط 58 ألف جندي أميركي في فيتنام خلال الفترة بين العام 1961 و1973، وحين عرضت محطات التلفزة الأميركية صور جمع من الصوماليين وهم يجرون جثة جندي أميركي في شوارع مقديشو تذكر الرئيس بيل كلينتون حرب فيتنام وسارع إلى سحب جنوده منها. كما أن بوش الأب رفض مغامرة على غرار فيتنام حين شن حرب العراق الأولى، وبعد سنوات أجاب ردا على سؤال عن عدم مواصلة الزحف نحو بغداد: «لو فعلنا ذلك لكنا ما زلنا اليوم قوة احتلال في بلد معاد لنا»، لكن ابنه كان له رأي آخر. وكما رفعت الولايات المتحدة شعار الحرب ضد الشيوعيين في فيتنام، احتاج صقور واشنطن إلى تنظيم (القاعدة). ومثلما سعى وزير الدفاع الاسبق روبرت مكنمارا في العام 1963 إلى ضرب فيتنام منعا لانتشار الشيوعية في منطقة شرق آسيا وصولا إلى استراليا فإن بوش رفع شعار نظام عالمي جديد يبدأ تحقيقه في العراق ثم ينتشر مثل حجارة الدومينو في سائر دول المنطقة. كما ان هناك تشابها عند وضع خطة الحرب: فحرب فيتنام قامت أيضا على قاعدة من المعلومات الكاذبة. ويكشف الصحافي الأميركي بوب ودوورد في كتاب جديد أن بوش أمر وزير الدفاع رامسفيلد بوضع خطة لغزو العراق خلال العمليات العسكرية في أفغانستان، وما تبع ذلك كان مجموعة من قصص «ألف ليلة وليلة»، وكل مرة احتاج رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني إلى أدلة وهمية عن تهديدات العراق للولايات المتحدة سارعا للاتصال بأحمد جلبي الذي كان يعيش في لندن بعد فراره من الأردن الذي اختلس منه أموالا، فانه كان سخيا بتقديم المخبرين. وكما في فيتنام، تجري في مدن عراقية اليوم حرب مباشرة بين المقاومة والجنود الأميركان، بما يذكّر بلجوء الفيتناميين إلى الحرب الشعبية.
آلاف الجنود العائدين من جحيم فيتنام انتحروا، ومن بين الجنود الأميركان العائدين من العراق من أقدم على الانتحار، والبنتاغون تخفي أرقام هؤلاء الحقيقية. وزير الخارجية كولن باول ونائبه ريتشارد آرميتاج شاركا في حرب فيتنام، وكلاهما يفضل الحل السياسي على الحرب على خلاف الصقور أمثال ريتشارد بيرلي أو بول ولفوفيتز وتشيني الذين أدوا الخدمة العسكرية بعيدا عن جبهة الحرب. كذلك استخدم بوش الأب نفوذه كي لا يشارك ابنه البكر في معارك فيتنام وأمضى الخدمة في الحرس الوطني وفي أماكن أخرى لم تعد مدونة في ملفه!
العدو أيضا حير العسكريين الأميركيين في فيتنام مثلما يحيرهم اليوم في العراق والفارق الواضح هو أن ثوار الفيتكونغ كانوا أشد بأسا وأكثر خبرة في حرب الأدغال، إذ استفادوا كثيرا من تجربتهم مع المستعمرين الفرنسيين. ومثلما حصل في فيتنام من مآس أصابت المدنيين يجري اليوم في العراق. والدة الطفل عبد الحكيم إسماعيل كانت حاملا في شهرها السادس حين أصيبت برصاصة قضت على مولودها، كما أصيب ابنها عبد الحكيم برصاصة في رأسه نقله الأميركيون على إثرها إلى جهة مجهولة، وقالوا لاحقا إنهم أرسلوه للعلاج في الخارج، ولا تعرف الأم الحزينة هل سترى ولدها بعد اليوم.
في الأسبوع الماضي تقرر تمديد فترة بقاء 20 ألف جندي في العراق لثلاثة اشهر، وهو امر يبعث على القنوط. والولايات المتحدة تصر على إدارة شئون العراق في المستقبل، بما في ذلك ودائعه في الخارج وثروته النفطية فيما تجاهلت منذ البداية ثروته الثقافية حين سمحت لعناصر مخربة سرقة المتاحف العراقية وأرشيف جامعة بغداد، وهي ثروة يجمع المعلقون على أنها لا تقدر بثمن. كيف ستبدو الأمور بعد تاريخ 30 يونيو/حزيران؟ لا أحد يعرف، ولكن المؤكد أن لعبة الدومينو التي أراد بوش أن يلعبها في المنطقة قد منيت بالفشل
العدد 595 - الخميس 22 أبريل 2004م الموافق 02 ربيع الاول 1425هـ