قضية الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج أصبحت من القضايا الشائكة في تحليل العلاقات الإقليمية والدولية. إلا أن أهمية هذه القضية تبرز في كون التطورات الإقليمية التي شهدتها منطقة الخليج من الناحية التاريخية أثّرت بشكل كبير ومازالت في تفاعلات النظام الدولي، فضلا عن تأثيراتها وتداعياتها الداخلية على شعوب منطقة الخليج ودولها. وعلى رغم الأهمية الاستراتيجية لقضية أمن الخليج في العالم، تلك الأهمية التي أدت إلى استحداث برامج بحثية وأكاديمية في الكثير من جامعات العالم المرموقة مثل البرنامج البحثي (الخليج 2000) في جامعة كولومبيا الأميركية، فإننا نلاحظ مسألتين مهمتين، وهما:
المسألة الأولى: الاهتمام المحدود من حكومات دول الخليج بقضية الأمن الإقليمي، وقلة الدراسات الحكومية، ومحدودية الدراسات الأكاديمية الخاصة بها. وخصوصا أن الاهتمام البحثي في السنوات الثلاث الماضية أخذ منحى مختلفا، إذ تركز على الاهتمام بالقضايا الأمنية الداخلية مثل ما يسمى بالإرهاب أو العنف الفكري والسياسي. ومن الإنصاف أيضا الإشارة إلى أن هناك تفاوتا في الاهتمام بهذه القضية بين دول الخليج، وأعتقد أن أكثر البلدان الخليجية اهتماما بها هي الإمارات وإيران، وذلك بسبب النزاع الحدودي بشأن الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الصغرى وطنب الكبرى وجزيرة أبوموسى) في حين يقل الاهتمام في البلدان الأخرى.
أما المسألة الثانية وهي الأهم: عدم تمكن دول الخليج تأسيس أية ترتيبات أمنية مشتركة تقوم على مفهوم الأمن الجماعي تضمن مصالح جميع البلدان المطلة على الخليج سواء كانت عربية أو إسلامية على رغم التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية المختلفة التي شهدتها المنطقة تاريخيا.
كما ان تناول هذه القضية بطبيعة الحال يقتضي التركيز على جوانب متعددة في الأمن الإقليمي سواء البعد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وحتى الثقافي أو الفكري.
ومن وجهة نظري فإن هناك عقبة كبيرة أمام تحقيق أية ترتيبات أمنية إقليمية في المنطقة، ولا يمكن معالجتها إلا عبر دعم التطبيع الخليجي الخليجي، سواء كانت العلاقات بين دول مجلس التعاون بعضها بعضا أو بين دول مجلس التعاون من جهة والعراق وإيران من جهة أخرى، أو عن طريق مستوى ثالث يقوم على التطبيع بين العراق وإيران معا. كل ذلك انطلاقا من أن الأمن الإقليمي في منطقة الخليج لن يتحقق إلا بدول الخليج وليس بدعم القوى الغربية الأجنبية.
حاليا وفي ظل ظروف الاحتلال الأميركي البريطاني الذي يواجهه العراق فإن المدخل الاستراتيجي الأنسب لتأمين وضمان أمن الخليج الإقليمي هو تقوية العلاقات الإقليمية بين دول مجلس التعاون وإيران. وأعتقد أن مثل هذه الرؤية تواجه الكثير من العقبات على رغم وجود جملة من العوامل والقواسم المشتركة بين الطرفين تساعدهما على تطوير هذه العلاقات سواء تعلقت بالثقافة أو الارتباط الديني المذهبي.
ويمكن على الاقل تلخيص رؤى دول مجلس التعاون منذ حرب الخليج الثانية وحتى الوقت الراهن تجاه قضية أمن الخليج في النقاط الآتية:
- أهمية ربط أمن الخليج بأمن دول مجلس التعاون الخليجي مع التركيز على التهديدات الخارجية بدلا من التهديدات الداخلية.
- إبرام واستمرار اتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان الأوروبية، والقبول بالوجود العسكري الأجنبي باعتباره من أدوات الاستقرار الأمني في المنطقة.
- تراجع الثقة في إمكان تحقيق صيغ أمنية خليجية عربية تضمن تحقيق الأمن في الخليج، وخصوصا مع عدم تفعيل وفشل منظومة إعلان دمشق.
- أهمية تطوير القدرات العسكرية الوطنية لدول مجلس التعاون عبر عملية الاستيراد.
- رفض دول مجلس التعاون للسيطرة الأمنية الإيرانية على منطقة الخليج. ولكن بلدان المجلس أبدت تفاوتا تجاه هذه المسألة، إذ أعلنت كل من قطر وعمان رؤيتهما المغايرة لذلك ودعت إلى إشراك إيران في أي صوغ أمني مزمع تحقيقه.
من خلال استعراض النقاط السابقة يمكن ملاحظة مدى التباين في وجهات النظر بين الطرفين الخليجي والإيراني، ففي الوقت الذي تتحفظ فيه إيران على الوجود العسكري الأجنبي نجد هذا الموقف يختلف تماما عن مواقف دول المجلس. ومن أبرز التناقضات في السياسات الخليجية دعوة قطر إلى ضرورة إشراك إيران في الصيغ الأمنية المقترحة مع قبولها بالوجود العسكري الأجنبي في المنطقة واستضافتها لأكبر مخزن وقاعدة عسكرية أميركية في العالم. في الوقت الذي تؤكد فيه إيران أن أي صوغ أمني في الخليج يجب أن يقوم من أجل إخراج الوجود العسكري الأجنبي الذي تعتبره استعمارا جديدا للمنطقة. وفي زيارتين قمت بهما إلى العاصمة الإيرانية طهران نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري أتيحت لي الفرصة للقاء وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي، ووزير الدفاع علي شمخاني، وكان تركيزهما عند الحديث عن قضية الأمن في الخليج على الموقف الإيراني الثابت من الوجود العسكري الأجنبي الذي تعتبره طهران التحدي الأكبر للأمن الخليجي المشترك.
بالتالي يمكن القول إن الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة يعد نقطة الخلاف الأكبر بين الأطراف ذات العلاقة بأمن الخليج. ومن ثم يجب بحث الأسباب التي تعمق هذا الخلاف، وتزيد من توجه بلدان مجلس التعاون الخليجي إلى الموافقة على استمرار هذا الوجود بما يستنزفه من موازنات طائلة، وما يسببه من أزمات سياسية واقتصادية تؤثر على بلدان الخليج.
ثمة أسباب داخلية وخارجية أدت ومازالت إلى استمرار الوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج. ومن أهم الأسباب الخبرة الاستعمارية السابقة لدول المنطقة التي ربطتها بالخارج. ومن الصعوبة بمكان بالنسبة إلى هذه الدول رفض القوى الغربية وتدخلاتها في المنطقة لأن وجودها العسكري أصبح جزءا من الأمر الواقع. إلا أنه مع الشروع في الإصلاح السياسي فإنه بالإمكان معالجة هذه الإشكالية بكل تأكيد، إذ سينتج عن الإصلاح السياسي علاقة طردية بين دمقرطة المجتمعات من ناحية، وتحقيق الأمن الإقليمي من ناحية أخرى.
أما أهم الأسباب الخارجية التي أصبحت معيقة لإنهاء صور وأشكال الوجود العسكري الأجنبي فهي تفاقم الأوضاع الاقتصادية لدول المجلس، ما دفعها إلى الاقتراض الخارجي، إذ تقدر الديون الخارجية لهذه الدول بـما يقرب 56 مليار دولار طبقا لتقدير وحدة المعلومات بالإيكونومست. وفي الوقت نفسه فإنها تنفق على تطوير دفاعاتها الذاتية ما يقرب 28,13 مليار دولار بحسب تقديرات معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية، وهي أرقام مرتفعة طبعا إذا ما قورنت بما تنفقه هذه البلدان على القطاعات الاقتصادية والخدمية الأخرى. لذلك فإن الظروف الاقتصادية الصعبة تجعل بلدان الخليج تفكر بشكل رئيسي في إيجاد بدائل للتقليل من نفقاتها العسكرية.
ويبدو أن خيار الاعتماد على القوات العسكرية الأجنبية في تعزيز الأمن الإقليمي والوطني أضحى مناسبا للغاية كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الدول. ولكن القضية الأهم هي ما جدوى هذا الاعتماد في ظل غياب الخطر والتهديد الأمني إقليميا؟
ففي نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات كان الخطر ناجما عن إيران الثورية، والآن بعد أن طرأت تحولات كبيرة في السياسة الخارجية الإيرانية منذ نهاية الثمانينات وانتقل النظام الإسلامي في إيران من نظام الثورة إلى نظام الدولة، وما تبعه من تقارب خليجي إيراني بدأ مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، فقد غاب الخطر الإيراني. أما بالنسبة إلى الخطر العراقي السابق فقد زال بزوال حكم البعث. لذلك فأن الوقت حان لإيجاد تعريف جديد لأمن الخليج، وتحديد مصادر التهديد الأكبر لأمن دول المنطقة الداخلي والخارجي. ولابد من إعادة النظر في الوجود العسكري الأجنبي الذي ولد حركات سياسية مناوئة له ألحقت أضرارا عميقـــة في بنى المجتمعات الخليجيــة. وإذا كان الحديــث عن العلاقات الخليجية الإيرانية فإنه من الأهمية بمكان بناء ثقة خليجية خليجية تقوم على الاحترام المتبادل وتضمن تحقيق الحد الأدنى من المصلحة المشتركة، وتعالج ما تبقى من خلافات جوهرية في هذه العلاقات بين الطرفين وفي مقدمتها النزاع بشأن الجزر الإماراتية الثلاث. وفي تقديري فإن المعادلة الأمنية (16) هي الأنسب في الوقت الحالي لتحقيق الأمن حتى تستقر الأوضاع في العراق وتتضح الرؤية أكثر. والمدخل الأنسب لتحقيق هذه المعادلة تفعيل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين بلدان مجلس التعاون الست من جهة وإيران من جهة أخرى
العدد 594 - الأربعاء 21 أبريل 2004م الموافق 01 ربيع الاول 1425هـ