تبدو تطورات الوضع الفلسطيني انها تدفع نحو تحولات جديدة تعيد النظر في الأطر العامة للاستراتيجية السياسية التي دشنتها القيادة الحالية في العام 1974. الوضع الفلسطيني الآن مهدد بالاقتلاع. فالقيادة التاريخية محاصرة في رام الله، وشارون يهدد بالمزيد من الاجتياحات الصغيرة والتصفيات والاغتيالات في فلسطين المحتلة وخارجها، وغالبية الفصائل تستعد الآن للعودة إلى العمل السري كما كانت البدايات في العام 1964. الوضع متأزم والموقف الأميركي (إدارة بوش) يصب المزيد من النفط على النار.
الوضع الفلسطيني الآن غير مريح، كذلك الدولة الأولى في العالم تبدو ايضا متوترة وغير واثقة من خطواتها. فإدارة بوش تخلت علنا عن ممارسة دور أميركا كطرف راع للسلام، وتحولت بوضوح إلى ذئب كاسر يبرر خطوات شارون (شايلوك الجديد) ويمده بالذخيرة ويغطيه إعلاميا وسياسيا.
هذا الوضع المتأزم يطرح على القيادة التاريخية الفلسطينية سلسلة أسئلة منطقية تطال استراتيجيتها السياسية التي باشرتها عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. آنذاك كانت «فتح» (كبرى الفصائل) تتبنى سياسة التحرير الشامل من البحر إلى النهر، ولا تميز بين أراض محتلة في العام 1948 واراض محتلة في العام 1967. فلسطين آنذاك كانت واحدة وعكا وحيفا ويافا والجليل تُعامَل على قدر المساواة مع رام الله ونابلس والخليل واريحا وجنين. فالشعار كان تحرير كل فلسطين واقامة دولة ديمقراطية واحدة يتعايش فيها الجميع من دون تمييز ديني أو طائفي أو مذهبي أو قومي.
هذه الاستراتيجية كانت اساس كل التحركات الفلسطينية وما رافقها من تحولات نضالية وصولا إلى اعلان حركة فتح الكفاح المسلح في 1 يناير/ كانون الثاني 1965.
بعد هذا الموعد كانت حرب يونيو/ حزيران 1967 وهزيمة الدول العربية وخسارة القدس وما تبقى من فلسطين اضافة الى سيناء والجولان.
عززت هذه الهزيمة قناعات الكفاح المسلح كبديل استراتيجي عن الحرب النظامية وتطورت خلال هذه الفترة الكثير من الأمور وتشابكت طموحات الثورة الفلسطينية مع ظروف واعتبارات الكيانات العربية الداخلية فحصل ما حصل من مواجهات دموية في الأردن وبعض المناطق اللبنانية.
استمرت المقاومة الفلسطينية في سياسة الكفاح المسلح والتحرير الشامل على رغم كل الصعوبات والعقبات إلى ان وقعت حرب اكتوبر (النظامية) فأعادت بعض الاعتبار لحرب الجيوش النظامية، ووضعت نظرية الكفاح المسلح (حرب العصابات) في مأزق جديد حين انتقلت المنطقة من معادلة اللاحرب واللاسلم إلى معادلة تفكك الجبهات العربية وبروز نظرية التفاوض (خطوة - خطوة) لاسترداد الأراضي المحتلة سلما بدل الحرب.
حرب يونيو 1967 أنتجت القرار الدولي 242، وحرب أكتوبر 1973 أنتجت القرار الدولي 338، وأدت السياسة الأميركية إلى استيعاب الدور السوفياتي وبرزت واشنطن كطرف قادر على احتواء تداعيات الحرب وحمل الأطراف على التسوية على طاولة المفاوضات انطلاقا من القرارين الدوليين.
هذا الوضع الجديد ضغط على القيادة التاريخية للمقاومة الفلسطينية، وجعلها تعيد النظر في استراتيجيتها الأولى التي تعتمد نظرية التحرير الشامل من البحر إلى النهر وعدم التفريط بأي شبر من أرض فلسطين.
بعد حرب أكتوبر دخلت المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة تقوم على فكرة «التقسيط» أي فصل أراضي 1948 عن أراضي 1967، معتمدة استراتيجية المراحل السياسية.
انطلقت الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة من فكرة بسيطة وهي أن امكانات الكفاح المسلح ضعيفة، وبالتالي على القيادة ان تراهن على العامل الدولي في مساعدة شعب مطرود من أرضه للعودة وفق القرارات الدولية. وبما ان القرارين 242 و338 ينصان على عودة اراضي 1967 فقط فقد اتجهت القيادة إلى اعتماد نظرية اقامة السلطة الفلسطينية (الدولة) في الضفة الغربية وقطاع غزة واغفال اراضي 1948، من دون إسقاط حق العودة والتمسك بأن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 593 - الثلثاء 20 أبريل 2004م الموافق 29 صفر 1425هـ