العدد 593 - الثلثاء 20 أبريل 2004م الموافق 29 صفر 1425هـ

هل يتحرك الشرفاء وقد مُرّغ «التنين» في طمي العراق؟

آخر مقال للشهيد الرنتيسي عن الفلوجة

لقد تنبأنا في مقالات سابقة أن العراق سينتصر على الأشرار من الأميركان، وربما تنبأ غيرنا الشيء نفسه، ومثل هذه الرؤى لم تكن قطعا وفق الحسابات المادية لموازين القوى، ولو جرت وفق هذه المعايير لما تنبأ أحد بانتصار العراق، ولكنها كانت وفق فهم واع للسنن الإلهية، وصدق الله إذ يقول: «اسْتِكْبَارا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا» (فاطر: 43). ولكن الذي لم نتنبأ به هو ما يجري من إذلال لأميركا فاق كل التصورات والحسابات على رغم أنه أيضا من سنن الله «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الملْكِ تُؤْتِي الملْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء» (آل عمران: 26)، ما أفقدها هيبتها، وجعلها غير قادرة بإذن الله على الاستمرار كمصدر إرهاب وابتزاز لشعوب العالم، فالأمر إذا أكبر من هزيمة، وهذا ما جعل وزير خارجية أميركا كولن باول يقول في ذهول واضح: «لم نكن نتوقع هذا الحجم من المواجهة».

الإدارة الأميركية في العراق تقف اليوم عاجزة تماما، ومشلولة شللا كاملا، وقد فشلت فشلا ذريعا في إدارة المعركة، فالبيت الأبيض نراه مضطربا وهو يبحث عن سبيل للخروج من المستنقع، لأنه لم يعد أمام جنرالات الشر والإرهاب الأميركان من حيلة إلا أن يخدعوا أنفسهم بالكذب الرخيص علاجا لما حل في نفوسهم من انهيار معنوي خطير، وأغرب ما في الأمر أنهم يكذبون بطريقة مفضوحة، وهذا يعني أن العقلية الأميركية التي تفننت في قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ في العراق عمدا مع سبق الإصرار باتت عاجزة تماما عن تمرير أكاذيبها على أقل تقدير، وفشلها في إخفاء الحقيقة أفقدها صدقيتها، فلم يعد أحد يصدق مزاعم أميركا فيما تطرح من أهداف إنسانية من وراء احتلالها للعراق وهي التي تستخدم أمام العالم أحدث المقاتلات الحربية في قصف البيوت في الفلوجة، ولم يعد أحد يصدق أميركا في ما تعلنه من أرقام كاذبة عن عدد قتلاها وجرحاها، وفضحتها اللقطات الإعلامية الذكية، فعلى أفضل تقدير لا تعكس الأرقام المعلنة رسميا أكثر من 10 في المئة من الحقيقة، ما جعل الجندي الأميركي أرخص جندي في العالم، فهو يقتل ويوارى التراب من دون أن يذكر اسمه، ولم يعد أحد يصدق التهديدات الأميركية العنترية الفارغة بسحق المقاومة في العراق وأفغانستان. لقد سقطت أميركا في العراق، وسقطت معها مشروعاتها السياسية الهادفة بكل الحقد الصليبي إلى هدم العقيدة الإسلامية ودك أركان الإسلام.

وأسوأ ما ألم بأميركا من وضع مخزٍ أنها لا تدري ما تفعل، فهي لا تستطيع المكوث في العراق، فالجنود الأميركان قد انهاروا تماما، فمنهم من يعيش اليوم على العقاقير المهدئة للأعصاب حتى ينسى، ومنهم من يرى في الانتحار الحل الأمثل، وهي لا تستطيع مغادرة العراق، فالمغادرة من دون تحقيق الأهداف تعني نهاية أميركا على أقل تقدير كقوة عظمى، وفي ظل اللا حل تغرق أميركا يوما بعد يوم فيزداد وضعها سوءا وتعقيدا، فهل هناك من هو أبأس اليوم من الشيطان الأميركي؟... «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمجْرِمُونَ» (يس: 59)، ألم تر كيف هزمت على أبواب الفلوجة الأبية؟

ومما لا شك فيه أن هذا الإذلال له آثاره المهمة لصالح المسلمين لو استثمر؛ فالصهاينة اليهود هم أول المتضررين من هذا الإذلال، وذلك لأسباب عدة منها أنهم هم من وراء توريط أميركا في العراق ما سيؤدي ولو بعد حين إلى يقظة أميركية تكتشف معها أميركا أن احتضانها للكيان الصهيوني إنما هو احتضان للأفعى، وهذا أمر له ما بعده. ولقد بدأ الأميركان يشعرون بخطر الصهاينة اليهود على مستقبل دولتهم.

كما أن خروج الحليف الأكبر للعصابات الصهيونية مهزوما ذليلا من العراق سيضعف قدرة أميركا على مواصلة دعمها للإرهاب الصهيوني، ما قد يؤدي ولو بعد حين إلى وقوف تلك العصابات وجها لوجه مع أمة عريقة عظيمة ذات حضارة.

كما أن هزيمة أميركا وإذلالها في العراق سيحطم الحلم الصهيوني في نفوس الصهاينة وقد ظن اليهود أن حلمهم في تحقيق «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات قد حان أجله باحتلال أميركا للعراق. كما أن آمال الصهاينة تبخرت في استثمار الدماء الأميركية وتحويلها إلى أموال تصب في خزانتهم، وفي استثمار الوجود الأميركي لبسط نفوذهم على الأمة العربية والإسلامية، واستثمار السيف الأميركي لتجنيد المذعورين في عالمنا العربي والإسلامي لضرب الحركة الإسلامية خصوصا في فلسطين، وكل ذلك اليوم ينهار مع انهيار أميركا.

ومن المتضررين أيضا أولئك الذين لم يتركوا فرصة إلا وذكرونا فيها أن أميركا قوية وأننا ينبغي علينا أن نتفهم الواقع، وأن ننحني للعاصفة، فأميركا في قراءتهم للواقع لا تقهر، وغير ذلك من التعابير المهزومة، وهؤلاء في واقع الحال اتخذوا أميركا ربا من دون الله، واليوم أراهم قد شدهوا وهم يرون ربهم يذل في العراق على أيدي المجاهدين الأبرار، وهؤلاء بالطبع لم تعد لهم قدرة بعد اليوم على نشر الإحباط واليأس في نفوس المسلمين، فلن ترى فيهم أميركا بعد اليوم إلا مجرد طفيليات ضارة، فلن يكون لهم دور أميركي، هذا إن بقيت أميركا أميركا.

ومن المتضررين أيضا تلك الدول التي تحالفت مع أميركا في حربها على الإسلام، فاستجابت للإغراءات الأميركية فغاصت معها في طمي الفرات، وهؤلاء منهم من بدأ يشعر بالخطر مثل بريطانيا وإسبانيا واليابان وإيطاليا ما جعل شعوبها تلعن القادة، ومنهم من يترقب فهو يؤمن أن الخطر سيدركه عاجلا أم آجلا. ومن المتضررين أيضا القادة الذين باعوا أنفسهم وكرامة أمتهم ومصالحها للشيطان الأميركي، فأصبحوا في عداء مع شعوبهم، ما جعل بقاءهم مرهونا بالحماية الأميركية، وهم اليوم يخشون أن تضعف أميركا عن تقديم الحماية لهم.

كل ذلك يشكل فرصة عظيمة للشرفاء من أبناء هذه الأمة، المؤتمنين على ماضيها وحاضرها ومستقبلها ليتحركوا، لا يخافون في الله لومة لائم كي يفرضوا واقعا جديدا ينقذ الأمة من حال الانكسار التي تعيشها اليوم، فقد آن للشرفاء إذا أن يبذلوا كل جهد مستطاع ليحطموا قيود الواقعية المهزومة. لقد آن لهم أن يعملوا مخلصين كي تتبوأ أمتهم العريقة المكانة التي تليق بها بين الأمم. لقد آن لهم أن يحققوا لأطفال هذه الأمة ونسائها وشبابها وشيوخها الأمن والاستقرار، وأن يبنوا لهم مستقبلا أفضل يليق بأمة الإسلام، وأن ينفضوا عن كواهلهم غبار الذل والعار والهزيمة، وأن يعيدوا لهم ما سلب من كرامة.

فهل سيتحرك الشرفاء؟ أسأل الله ذلك...

قائد حماس في قطاع غزة، استشهد في غارة إسرائيلية في 17 ابريل/نيسان الجاري

العدد 593 - الثلثاء 20 أبريل 2004م الموافق 29 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً