في فلسطين المحتلة، جاءت نتائج الانتخابات الصهيونية لتعطي دليلا إضافيا على أنَّ اليهود اختاروا مجدَّدا السير في خط المواجهة مع العرب، والعمل أكثر لمحاصرة الشعب الفلسطيني في أرضه وإنسانه واقتصاده، من خلال اختيار اليهود للأحزاب والشخصيات وفق القاعدة التي تقول إن الأولوية هي لاختيار الأكثر عدائية للعرب والفلسطينيين.
وهكذا تنتج الانتخابات الصهيونية -مجددا- أحزابا وشخصيات أكثر تشددا إزاء ما يسمى مسألة السلام، فهي لا توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل، أو التنازل عن القدس كعاصمة لكيانهم، وصولا إلى رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
إنَّ الصيغة الجديدة القديمة التي يتحضّر العدوّ لتقديمها للعرب تقوم على مبادلة السلام بالسلام، بعدما أسقط اليهود صيغة «الأرض مقابل السلام»، وضحكوا كثيرا على المبادرة العربية التي أطلقتها قمّة بيروت، ولا سيَّما أنهم شاهدوا عالما عربيا يعيش الفراغ القاتل، ويتحرّك في دوَّامة الموت السياسي، وخصوصا الاهتزازات الخلافية المعقّدة بين دوله، بالمستوى الذي تتداخل فيه القضايا الشخصية، وتتزاوج مع الخطوط الدولية الرامية إلى مصادرة الواقع العربي، وإسقاط كل عناصر القوة فيه، ودفعه إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية ووضعها في سياق الحرب على الإرهاب، بدلا من طرح القضيَّة من زاوية إنهاء الاحتلال الذي يمثِّل أبشع مظاهر الإرهاب، وأوَّل مصادر العنف والاقتتال.
إننا نحذّر من أن العدوّ سيبدأ جولة جديدة من جولات الضغط على الفلسطينيين، لتشتيت مطالبهم، وتمييع قضاياهم، وقتل طموحاتهم في الوقت الضائع، ليكون الخيار الأخير أمامهم هو الحكم الذاتي الذي يراد له أن يحفظ أمن الكيان العبري، وأن يسحب نهائيا مسألة الدولة المستقلة القابلة للحياة من التداول السياسي، من خلال الوقائع التي أفرزها الاستيطان وأكّدتها نتائج الانتخابات الصهيونية.
متى يصنع العرب سلامهم؟
إنَّنا أمام هذا الواقع، ندعو العرب إلى الخروج من الحلف غير المقدّس الذي لا يزال يتنكّر للمقاومة بكلِّ فصائلها، وندعو السلطة الفلسطينية إلى العودة إلى كنف شعبها بدلا من الارتماء في أحضان المحاور الدولية والعربية التي لا تضمر الخير للقضية الفلسطينية، وخصوصا أن ما يسمى السلام بات وراء الجميع، وأن صورة الدمار في غزة يراد لها أن تطغى على الواقع الفلسطيني كله، وعلى المشهد السياسي العربي بكامله، لأن شعار العدو الذي يردِّده المسئولون الصهاينة هو أن قوة جيشهم هي التي تفرض السلام على العرب وليس أي شيء آخر، ولا ندري متى يراهن العرب على سلام تصنعه القوة العربية والإسلامية الذاتية، بدلا من الرهان على سلام الذلّ والهوان الذي يُصنع لهم في دوائر الاستكبار العالمي والصهيوني.
وليس بعيدا من ذلك، ما نلتقي به في هذه الأيام من دراسات قامت بها مراكز بحوث إسرائيلية، أظهرت أن ضعف العالم العربي سيمنح الكيان الصهيوني إنجازا كبيرا، وسيوسّع إمكاناته للَّعب في الحلبة الدولية، وحذّرت هذه الدراسات من أن إعادة توحيد العالم العربي ستكون «لمصلحة المعسكر الراديكالي»، في دلالة جديدة على أن المطلوب إسرائيليا من أجل تحقيق المصالح اليهودية، هو إضعاف القدرة العربية السياسية والاقتصادية والأمنية، وإثارة الانقسامات بين الدول العربية بما يكرّس واقع الشقاق وسياسة المحاور داخل الساحة العربية.
ومن هنا، فإننا نتساءل عن حرّاس هذه الانقسامات، وعن الجنود المجنّدة التي تعمل لحساب العدوّ فيما توحي بأنها الأكثر إخلاصا للقضيَّة العربية، في الوقت الذي تخطط لإعطاء إسرائيل في السلم ما لم تحصل عليه في الحرب.
ولعل ما يبعث على الأسى مجدّدا، ما قرّرته الجامعة العربية، من خلال أمينها العام، من اجتماعات دعت إلى انعقادها في الشهر القادم لدراسة التطورات والمتغيرات السياسية في أعقاب نتائج الانتخابات الأميركية والإسرائيلية، ربما للتأكيد أنَّ العرب يأتون متأخرين دائما، أو للرجوع مجددا إلى سياسة البيانات المتأرجحة التي تخشى سحب المبادرة العربية، بعدما سحبت إسرائيل البساط من تحت أقدام قادة الجامعة ودولها.
إن على العرب، بمن فيهم الجامعة العربية التي انهارت تماما أمام تجربة العدوان على غزَّة، وكانت قد سقطت في تجارب سابقة، أن يفهموا أنهم باتوا أمام مرحلة صعبة وخطيرة تتهدد أدوارهم ومصيرهم، وربما وجودهم، الأمر الذي يفرض عليهم الإعداد لاستراتيجية البقاء إذا كانوا قد عزفوا تماما عن استراتيجية صنع القوة للّحاق بركب الأمم والشعوب التي تجاورهم على الأقل.
لبنان: سيادة العصبية في اللّغة السياسية
أمّا في لبنان، فقد بدأنا نسمع أصواتا تُخرج القيادات الدينية الرسمية في بعض رموزها من دائرة المرجعية العامة إلى المسارات الضيّقة والخاصة، وتبرزهم كشخصيات يضيق صدرها عن الانفتاح على الجميع، الأمر الذي يؤكد ما كنا نخشى منه، وهو أن الشخصيات الدينية سقطت -بدورها- في دوَّامة الانتماء الوظيفي لهذه الفئة أو تلك، وكفّت عن أن تكون عنصر مصالحة ومواءمة بين الأطراف... إننا نخشى من أن لبنان الذي يفتقر إلى الكثير من المرجعيات على المستوى السياسي العام، بدأ يعاني المشكلة نفسها على المستوى الديني، الأمر الذي ينعكس على ثقة المواطن بهؤلاء وأولئك، ويخلق عنصرا جديدا من عناصر الاهتزاز في الساحة الوطنية العامة.
وإلى جانب ذلك، تزداد الصورة قتامة من خلال لغة سياسية تستحضر العصبيَّات كمدخلٍ للانتخابات، ومن خلال استعدادات متواصلة للتلويح بالمال السياسي لتكريس الزعامات، ولاستغلال الوضع الاقتصادي للناس الغارقين في مشاكلهم المعيشية، وذلك في ظل حديث متصاعد عن استعداد هذه الدولة للدفع أكثر، وذاك المحور للسير قدما في خط شراء الأصوات، وإثارة كل عناصر المذهبية والطائفية والشخصانية، بما يجعل المواطن رهينة للغرائز والعصبيات، وعبدا للمال ولهذا الزعيم الطائفي والمذهبي والحزبي الذي يمعن في استغلال حاجات الناس لحساب المصالح الخارجية التي قد تلتقي بمصالح الزعامات هنا وهناك... ويحدِّثونك بعد ذلك عن الحرية والاستقلال!
أيّتها الحرية: كم من المبادئ والشعارات تذبحَُ باسمك وتحت رايتك وعناوينك؟
إن الحرية السياسية التي لا بدّ من أن تبرز على حقيقتها، وفي موقعها، تتمثل في أن ينطلق المواطن لتأكيد موقفه السياسي، وإبراز رأيه الانتخابي، بعيدا عن الضغوط المالية أو العصبية والسياسية هنا وهناك.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2359 - الخميس 19 فبراير 2009م الموافق 23 صفر 1430هـ