ينطلق ابن رشد، حسب الالوسي، من فهمين للقرآن الكريم واحد للعامة (الجمهور) وآخر للخاصة (العلماء) ويرى ان الاشاعرة ينكرون الاسباب الطبيعية والقوى وكل الفعل وينسبونه إلى فاعل واحد يخلق من عدم. وبرأي ابن رشد أن الكليات لا غنى لها عن الجزئيات التي هي تجريد لها، ويرفض وجود الكون من عدم محض ويؤكد على أن دور الفاعل لا يتجاوز تركيب المادة والصورة بإخراج ما هو بالقوة إلى الفعل. ويرى ابن رشد، استنادا إلى آيات القرآن، أن الصنع جاء من مادة أولى وليس من عدم محض. كذلك يرفض «دليل الجواز» عند المتكلمة ويؤكد على فعل العقول المفارقة بينما المحرك الذي لا يتحرك لا يتعدى دوره تنظيم ما هو موجود. ويأتي ابن رشد، حسب الالوسي، إلى مسألة الحركة، هل هي حادثة لم تتقدمها حركة أم هي حركة أولى لم تزل ولا تزال؟ ويميل إلى «قدم الحركة» إذ لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة. فالحركة عند ابن رشد واحدة متصلة لا مبدأ لها لأن ما له مبدأ فله نهاية. فالحركة عنده ليست فاسدة ولا كائنة كذلك الزمان، وبالتالي فهي ازلية مطلقة كلية. وعلى هذا يرفض ابن رشد قول المتكلمين ان للحركة بداية أو هي مجموعة دورات أو حركات جزئية متلاحقة. فهي برأيه تمت بدفعة كلية واحدة وتستمر تلقائيا (ذاتيا أو جزئيا) إلى ما لا نهاية، فهي كمال المتحرك وهي في متحرك أزلي، وحركته الأولى لم تزل ولا تزال. ولأن كل حادث إما أن يكون حركة أو تابعا لحركة، فإنه بالتالي لا يمكن أن يكون قبل الحركة الحادثة حركة حادثة، فالحركة إذا قديمة كذلك الزمان.
يتهم ابن رشد الفارابي وابن سينا وابن الصائغ (ابن باجه) بقلة فهمهم لمذهب أرسطو، ويرى أنه لم يقل بالفيض وأيد موقف المتكلمة المسلمين في نقدهم للفكرة لكنه يعود ويؤكد على قدم الزمان لا حدوثه. فالزمان برأيه متصل لأن ما ليس له أول فلا آخر له ولا ينتهي. فالحدوث عند ابن رشد لا يتجاوز التحريك، وبرأيه أن كل متكون يتكون من شيء ما وليس من عدم. فالعدم لا يتحول إلى وجود، وبالتالي العالم قديم وليس حادثا.
يعود الالوسي للاتفاق مع استنتاجات فخري حين يعتبر أن ابن رشد لم يتابع مذهب أرسطو بل حاول الاجتهاد فيه. فمذهب أرسطو في الوجود أميل إلى الفهم المادي الطبيعي، لكنه، برأي الالوسي، فهم مثالي «لكن مثاليته أضعف مذهب مثالي عرفه التاريخ» وهو أمر ينطبق إلى حد ما على ابن رشد.
منهج خاص
توصل الالوسي إلى استنتاج منهج ابن رشد «المادي» بقراءة طويلة لفلسفة الوجود عنده استنادا إلى مقولاته في «العلم الطبيعي» وهو أمر جعله يحصر خلافات فيلسوف الأندلس مع المتكلمة المسلمين في مسائل ثلاث: قدم العالم، قدم الحركة، قدم الزمان. وبرأي الالوسي أن هناك تشابها في مختلف المسائل ويقتصر الاختلاف على «البداية الأولى». فالاختلاف على البداية (العالم، الحركة، الزمان) هو أصل الافتراق. ويحتل نقد ابن رشد للمتكلمين في مسألة أصل العالم نصف كتابه «تهافت التهافت» بينما يتفق مع المتكلمين على الأمور الأخرى. ويوافق الغزالي على حدوث العالم ويعترض على حدوث الزمان. فالزمان، برأي ابن رشد، قديم لأن «المتقدم والمتأخر في الحركة لا يفهمان إلا مع الزمان». ويرد على ثلاث مقدمات قال بها المتكلمة وهي أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض، وأن الأعراض حادثة، وأن ما لا ينفك عن الحوادث حادث. ثم يعود ويتفق معهم على ان للعالم ككل فاعلا وموجدا وحافظا، ويتفق معهم على أن الأجسام الملموسة حادثة في شيء وعن شيء ويتقدمها زمان. ويبدأ الاختلاف على ان العالم ككل متى وجد هل مع الزمان أم بعده؟ فهو يقول بإيجاد العالم وان صورته محدثة لكنه يضيف ان نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين من دون انقطاع. وبذلك اختلف عن المتكلمة وفي الآن عن الفلاسفة المسلمين (الفارابي، ابن سينا) وخصوصا التيار الذي قال بنظرية «الفيض» التي انتقدها الغزالي بشدة.
يقسم الفيضيون الموجودات إلى ثلاثة أشياء ويقولون إن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، بينما يقسمها المتكلمون إلى شيئين قديم وحادث، ويقولون أن الواحد تصدر عنه الكثرة وإلا من أين جاءت الموجودات كلها.
استفاد ابن رشد كثيرا من نقد الغزالي للفلاسفة وتجاوزت اعتراضاته في رده على مختلف اتجاهات الحكماء 20 مسألة، بل ان نقد فيلسوف الأندلس للمدرسة الفيضية يقوم أساسا على نقد الغزالي لها ويوافقه على معظم انتقاداته، خصوصا في رده على فكرة أن المعلول الأول مركب من صورتين، ويوافقه على نقده لفكرة صدور جسم عن مفارق.
كذلك ينتقد فلاسفة المسلمين لأنهم فسروا «العلم الطبيعي» بمبادئ «مابعد الطبيعة» لأن الوجود برأيه هو الشيء وهو ماهيته. فاعتراض ابن رشد انصب على الزمان وليس على الحدوث وتركز على الحركة وليس على مسألة الإرادة القديمة وتجددها. وهو أمر قام لاحقا شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعد أكثر من قرنين على رحيل ابن رشد، بتقديم حل جديد له يقوم على مبدأ تسلسل المحدثات أو العوالم.
لا شك في ان انتقادات الغزالي الصارمة لافكار الفلاسفة المسلمين اربكت ابن رشد واحدثت التشويش المطلوب في ذهنه وعطلت تسلسل منهجه، خصوصا عند موافقته على الملاحظات التي رد فيها الغزالي على صدور الموجودات عن الواحد، ودليل العلة التامة، والترجيح، وان العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه.
الغزالي أبطل فكرة قدم العالم والحركة وقدم الزمان. فالزمان عنده حادث مخلوق مع العالم المخلوق وهو مقياس حركة العالم ولا زمان بين الفاعل الأول وبداية العالم. فالفاعل الأول متقدم على العالم والزمان والحركة. وبالتالي فالعالم والزمان والحركة حوادث ناتجة عن الجواهر الفرد، أي أنه «كان لا عالم ولا زمان ثم كان ومعه عالم وزمان».
استدل الالوسي على منهج ابن رشد الخاص في فلسفة الوجود على مقولاته الواردة في شرح «العلم الطبيعي» لارسطو وهو علم تبين لاحقا أن قاضي قرطبة افترضه من عنده ونسبه إلى غيره بسبب جهله لليونانية، فالشارح اعتمد على ترجمات عربية مختلفة وقام بترجيح مقولات على أخرى ظنا منه بأن هذه أقرب إلى عقل أرسطو من تلك، وأعاد تنسيقها في نظام معرفي يقوم على عرض الأفكار ثم تلخيصها ثم شرحها ثم التعليق عليها مفترضا أنها لغيره وهي في النهاية له لما فيها من خلط بين افكاره وما ظنه أنه أفكار أرسطو. وفعل ابن رشد الشيء نفسه في نقده لأفكار المعتزلة حين رد عليهم في موضوع حدوث العالم بالزمان ومن لا شيء، مستندا في استنتاجاته على كتابات الأشاعرة والمتكلمة ولم يقرأ مصدرا أصليا من مصادر المعتزلة وكتبهم. وبسبب عدم اطلاعه على أفكار المعتزلة والباطنية تجنب الرد عليها مباشرة وتركز معظم نقاشه ضد الاشعرية والمتكلمة والامام الغزالي خصوصا في مسألة «إثبات أدلة حدوث العالم» وهي كانت نقطة خلاف أساسية بين المعتزلة والامام الاشعري الذي قال إن العالم حادث وجاء حدوثه بسبب تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث وليس قديما.
ارتباك الرؤية
بسبب جهل ابن رشد لليونانية وعدم اطلاعه على المصادر الأصلية لفكر المعتزلة أوقع منهجه في ارتباك وحصل عنده تشويش وعطل تماسك أفكاره في منظومة موحدة. فهو وقع في التهمة التي وجهها لمن يسميهم بـ «الحشوية» حين رأى أن تلك المدرسة تحصر المعرفة بالسمع لا العقل.
وخلاصة الأمر أن تاريخ الفلسفة العالمية لا يخلو من طرفة عجيبة ابتداء من افلاطون في اثينا وصولا إلى توما الاكويني في باريس انطلقت من سوء فهم او تفاهم نتج عن أخطاء في الترجمة والنقل. فالكندي رد على قدم العالم بتأكيد حدوثه، ورد عليه الفارابي وأيده ابن سينا بتأكيد قدم العالم، ورد عليهما الغزالي بتأكيد حدوث العالم، ورد عليه ابن رشد بازلية العالم وحدوثه من فاعل أول، وانتقد وهو لا يتكلم اللغة اليونانية الفارابي وابن سينا بعدم فهمهما ارسطو، ورد عليه توما الاكويني واتهمه بتشويه آراء ارسطو وادخال أفكاره عليها.
هكذا دارت أكبر دورة فلسفية في التاريخ على مرتكزات لا صلة لها بعالم الأفكار الحقيقية بقدر صلتها بعالم الوقائع وظروف كل فيلسوف المكانية والزمانية وإسقاط كل فيلسوف أفكاره على غيره ونسبتها إلى من سبقه من مفكرين، فكل مفكر فهم ما يريده وأهمل ما لا يريده وبالأسلوب نفسه دارت في أوروبا معركة فكرية انقسمت إلى تيارين: الأول يدحض أفكار ابن رشد بذريعة «الالحاد» والثاني يدافع عن أفكاره بذريعة تغليبه العقل والعقلانية. وتبين في نهاية المطاف أن التيارين على خطأ بسبب سوء الفهم وأخطاء الترجمة والنقل من العربية إلى العبرية واللاتينية. فالتيار المضاد لابن رشد على خطأ لأن فيلسوف الأندلس ليس ملحدا، والتيار المؤيد له على خطأ لأن قاضي قرطبة يؤمن بالله ويدعو إلى التوفيق بين الشريعة والحكمة ويغلب الوحي على العقل في مسألة العلة الدائمة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2359 - الخميس 19 فبراير 2009م الموافق 23 صفر 1430هـ