عشية التهديد بقتل المواطن الإيطالي في العراق دخلت لبعض شأني في صيدلية إيطالية في العاصمة روما، ووجدت ذلك الشاب شرقي الملامح سرعان ما عرفت منه أنه عربي مهاجر لكسب لقمة العيش، وبعد حديث قصير وتلبية طلبي الطبي، قال: نحن في أحرج أوقاتنا هنا في أوروبا، في إيطاليا بالذات، فالأخبار القادمة من الشرق الأوسط ومن العراق خصوصا لا تبشر بخير لنا. واستطرد قائلا: «إن إحدى الصحف الكبرى الإيطالية وفي افتتاحية لها في الصفحة الأولى هددت بأن قتل الإيطاليين في العراق يعني الاستفراد بكل العرب والمسلمين هنا في ايطاليا، وهم جالية كبيرة معظمهم جاء إلى موطن الهجرة طلبا للعيش الكريم»!
نحن الآن في مأزق، كما قال المتحدث، فالذهاب إلى الزوايا التي يصلي فيها المسلمون بشكل منتظم هي تهمة تعرض الفاعل للملاحقة والشك، وحتى المظهر الخارجي، فاللحية الكثيفة تعني في ذهن البعض هنا التعصب، ولمحت صاحبي المتحدث فوجدته حليق اللحية والشارب معا، وكأنه يعلن لمن يريد أن يعرف أن لا علاقة له بكل ما يدور من صراع!
ربما كان ضمير المتحدث الشاب هو ما يحمله عدد كبير من المسلمين في أوروبا، وهو أمر يحتاج إلى تفكير عميق في مدخلاته ونتائجه. فإن نظرنا إلى الأرقام فهي تقول لنا إن شخصا واحدا في العالم من كل خمسة وثلاثين شخصا يعيش كمهاجر خارج بلده، وانه لو جمعنا كل المهاجرين في بلد واحد سيكونون دولة هي الخامسة على مستوى العالم من حيث عدد السكان، ذلك في المطلق. أما في الوضع العربي الإسلامي فإن الأمر أكثر جدية من ذلك بكثير، فالسيولة النسبية في ظاهرة الهجرة حديثة نسبيا، واكبت نهاية القرن العشرين فأصبحت بعض الدول العربية من أكبر المصدّرين للعمال، وبعضها من أكبر المستوردين لهم!
فمن بين عشر دول في العالم الأكثر تصديرا للهجرة إلى الخارج، تكون الدول العربية الإسلامية نصفها، أي أن خمسين في المئة من أكبر الأعداد المهاجرة إلى الخارج هم إما عرب أو مسلمون، والدول الخمس في الإحصاءات الدولية هي: السودان، العراق، الصومال والبوسنة وأفغانستان! قلت الدول الخمس من بين العشر الأكثر تصديرا للهجرة، أما إذا تجاوزنا العشر الكبرى، فإن عددا من الدول العربية تنضوي بعد ذلك تحت هذا المعيار (تصدير العمال إلى الخارج).
إذا نظرنا من منظورٍ آخر وتعرّفنا على الدول العشر الكبرى التي تتلقى أكبر كمٍ من المال نتيجة التحويلات التي تصل إليها بسبب أبنائها العاملين في الخارج، فمن بين الدول العشر الكبيرة، ست منها عربية وإسلامية، هي: مصر، المغرب، لبنان، الاردن، تركيا ثم بنغلادش!
الخسارة إذا من الجانبين، وهي خسارةٌ كبرى لم يحسب العرب لها حسابا بعد، أو أن حساباتهم في هذا المقام مازالت مترددة وغير حاسمة.
إذا أضفنا لكل تلك الحقائق حقيقتين أخريين، تتضح لنا الصورة القاتمة لوضع المهاجرين العرب في أوروبا ومستقبلهم، وهي أولا: يقول لنا تقرير التنمية الصادر عن الأمم المتحدة إن نصف الشباب العرب تقريبا (51 في المئة) عبروا عن رغبتهم في الهجرة إلى الخارج لضيق سبل العيش في بلادهم، أو لأنهم يعتقدون أن الفرص الاقتصادية متاحة لهم بشكل أفضل في الخارج نتيجة فقدان العدالة وفرص الحياة الكريمة في بلدانهم. وثانيا: أن تلك الحقيقة استندت إليها أبجديات المشروع الأميركي، ومن ثم الأوروبي للشرق الأوسط الكبير، إذ يذكر الأول الحقائق الآتية:
- سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب العربي سوق العمل بحلول العام 2010، وستدخلها 100 مليون يد عاملة بحلول العام 2020. وهناك حاجة إلى خلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
- إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة العربية 25 مليونا بحلول 2010 ( أي بعد ست سنوات فقط).
- يعيش ثلث أبناء المنطقة العربية على أقل من دولارين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المئة إلى 6 في المئة على الأقل!
المشروع الأميركي
ولقد تحول هذا المشروع السياسي الذي مازلنا نجادل بشأنه، إلى مشروع قانون قدم للكونغرس أخيرا، وقد وضع هذا المشروع عضوا مجلس الشيوخ تشاك هاغيل عن الحزب الجمهوري وجوزف ليبرمان عن الحزب الديمقراطي، ويرمي إلى «السماح ببرامج تدعم التطور الاقتصادي والسياسي لـ «الشرق الأوسط الأكبر ولآسيا الوسطى»، ويدعم ثلاث مؤسسات جديدة متعددة ومن أجل أهداف أخرى». ورأى عضوا المجلس أن تركيا هي الدولة المؤهلة للعب دور محوري وفريد لتحقيق مبادرة الشرق الأوسط الأكبر!
وركز المشروع الذي نشرت تفاصيله في بعض الصحف العربية، على أهمية السماح بالمساعدة من أجل الحرية السياسية والتطور الاقتصادي للشرق الأوسط الكبير ولآسيا الوسطى عبر مساعدات ومساهمات لثلاث كيانات: «صندوق دعم الديمقراطية»، «مؤسسة للتطوير» و«مصرف للإنماء»، وقد اقترحت لهذا المشروع موازنة تبلغ مليار دولار سنويا.
هذه الجهود التي تقودها الولايات المتحدة وتجهد أوروبا الموحدة في دعمها هي من أجل تقليل تدفق الهجرة العربية إلى الجوار الأوروبي في هذه الظروف التي شهدت تفجيرات مدريد، وتهديدات للعواصم الأوروبية، وأيضا القتل بدم بارد للاوروبيين في العراق من نفر يريد الضرر ليس بالعراقيين فقط بل وأبناء ملتهم أينما وجدوا.
في هذا الوقت نرى ولأول مرة في التاريخ أن يتقدم رئيس أو «شيخ» مجموعة تتعاطى الإرهاب وإشاعة الفوضى إلى التفاوض مع قارة كاملة هي أوروبا، كما فعل بن لادن أخيرا عندما عرض إخراج أوروبا من دائرة التقصد الإرهابي، وهو فعلٌ يعني في بعض ما يعنيه غيابا كليا عن حقائق العصر ومعطيات العالم!
ظاهرة الإرهاب يدفع ثمنها كثيرون، مواطنون عزّل في بلدانهم، وآخرون يطلبون العيش الكريم في المهجر، وهذه الظاهرة ليست من قريب أو بعيد طلبا للحرية أو الدفاع عن الأوطان، أو هي رغبة صادقة في عيشٍ تسوده العدالة، فالفعل الإرهابي يتولد أصلا من رحم ردة فعل غير عقلانية إزاء شعور بالإحباط، ليست له علاقة بالدين الذي يستخدم للترويج لمثل هذه الأعمال عند البسطاء من الناس.
ظاهرة الإرهاب العابرة للأوطان التي يغذيها البعض بالدعوة المتشددة إلى إلغاء الآخر وتجاوزه يدفع ثمنها ملايين الكثير من العرب والمسلمين في أوروبا اليوم مباشرة أو من وراء إصدار القوانين المقيّدة لحرياتهم أو حتى طردهم العشوائي. وما ذاك الصيدلي الذي تركته في إحدى صيدليات روما يضرب كفا بكف في حيرة من دون مخرج لمستقبله وأطفاله وأسرته، الا مثالا واحدا إنسانيا وملموسا لتلك المعاناة، وتكاد كلماته الأخيرة التي قالها «نكاد نخفي إسلامنا» تتضخم في أذن السامع حتى تكاد تفقده البصيرة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 592 - الإثنين 19 أبريل 2004م الموافق 28 صفر 1425هـ