تمر القضية الفلسطينية هذه الأيام في مرحلة دقيقة وحساسة. هذا الكلام ليس جديدا. الجديد هو أن الدولة الأولى في العالم تشجع حليفها الإسرائيلي على المضي في سياسة التوسع وتثبيت العدوان لحسابات انتخابية (ظرفية) ومن دون اكتراث للحقوق وتوازن المصالح وبالضد من المعاهدات والمواثيق الدولية.
الموقف الأميركي ليس جديدا أيضا. الجديد فيه أنه تحول من التجاهل إلى التأييد، ومن التسهيل إلى الدعم. فواشنطن منذ فترة طويلة تدعم سياسة حكومات «إسرائيل» بطرق مباشرة أو بالمداورة في تغيير المعادلات على الأرض. وإدارات البيت الأبيض باتت مقتنعة منذ فترة طويلة باستحالة العودة إلى حدود 1967 وتفكيك المستوطنات والتخلي عن القدس المحتلة وعودة اللاجئين. فهذه السياسة الأميركية كانت موضوعيا موجودة على الأرض من دون إعلانها رسميا. الآن جاء من يقول أو يعلن رسميا ما كانت تفكر به إدارات سابقة. فوعد بوش لشارون الذي سارع منافسه الديمقراطي جون كيري إلى تأييده ضمنا يؤكد من جديد أن خلافات الجمهوري مع الديمقراطي تتناول الكثير من الملفات الداخلية والخارجية باستثناء الملف الفلسطيني فهناك ما يشبه التطابق بين المتنافسين.
وعد بوش هو تثبيت سياسة أميركية غير معلنة تتعلق بالملف الفلسطيني وما يسمى بالصراع العربي - الإسرائيلي. فبوش مثل كل الإدارات الأميركية تقوم سياسته على تعزيز القدرات العسكرية لـ «إسرائيل» وإضعاف إمكانات الدفاع أو الرد العربي حتى تبقى هي الطرف الأقوى في معادلة الصراع ومنع الدول العربية من التحرك لأخذ حقوقها من طريق القوة.
بوش بالغ في تأييده لـ «إسرائيل» مستفيدا من موجة الكراهية التي أطلقتها إدارته (كتلة الشر) ضد العرب والمسلمين. وبسبب تلك المبالغة تحولت السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط» إلى سياسة إسرائيلية ووصل الدعم والتأييد إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة الأمر الذي أطاح بالدور الإقليمي (الوكالة الإسرائيلية) في المنطقة وخصوصا بعد نزول الجيوش مباشرة كطرف مباشر في المواجهات.
بوش إذا ليس صانع السياسة الأميركية وإنما هو الأكثر تطرفا في سياقها التصاعدي والمعبر عنها بوضوح وفجاجة من دون انتباه لردود الفعل ولا اكتراث لمصالح الدول العربية وتحديدا تلك التي تعتبر تقليديا من معسكر واشنطن.
أميركا إذا في عهد بوش هي الأكثر وضوحا في تأكيد مفهوم ان القوة هي الحق، وأن الجيوش هي التي ترسم الحدود السياسية، وأن من يملك المدفع والطائرة والصاروخ يملك الحقيقة ويحصنها... وبالتالي فإن الضعيف لا مكان له في عالم القوة.
هذه المقولة يمكن قراءة فصولها في أكثر من جهة حتى تلك المتعلقة بالأقوياء عسكريا (روسيا مثلا) والأقوياء اقتصاديا (أوروبا مثلا). فالولايات المتحدة ترى أن روسيا الآن لا يحق لها التفاوض من موقع القوة كما كان أمر الاتحاد السوفياتي سابقا ولذلك ألغت كل الاتفاقات والمعاهدات معها. كذلك ترى أن الاتحاد الأوروبي لا يملك القوة العسكرية الكافية لحماية مصالحه لذلك فإن الحلف الاطلسي (الناتو) الذي تقوده واشنطن هو الاطار الصالح للتعبير عن موقع أوروبا ودورها المالي - الاقتصادي.
وعلى القياس نفسه سحبت واشنطن تصوراتها على المنطقة العربية - الإسلامية وبالتالي فإنها تطبق القانون نفسه على العرب والمسلمين من أفغانستان والعراق إلى فلسطين. وما يحصل في فلسطين ليس بعيدا عن نظرية القوة التي تصنع الحق وتغير الحقوق وترسم الحدود وتعدل المعادلات. فالنهج الأميركي في حدوده القصوى والمتطرفة (إدارة بوش) أوصل العلاقات الدولية إلى شفير الهاوية وهو الآن يستتبع تلك الأزمات في إعادة صوغ خريطة «الشرق الأوسط» من طريق القوة والضغط والقهر... وفلسطين هي جزء أساسي من تلك الخريطة... ونجاح تحالف بوش - شارون في هذه الدائرة يعني نجاحه على أكثر من صعيد عربي.
القوة هي التي تفصّل الحقوق وتوزعها إلى حصص ونسب، هذا هو منطق شارون الذي تبناه علنا بوش بعد أن كانت الإدارات الأميركية السابقة تستفيد منه عمليا. وفي ضوء هذه المعادلة (معادلة القوة العسكرية) يمكن فهم مقولات السياسة الاميركية وما أفصح عنه بوش في رسالة الضمانات (التطمينات) لشارون وتأييده لما يسمى بـ «الإجراءات الاحترازية». فالاجراءات الاحترازية هي الوجه الآخر لعملة «الضربات الاستباقية» وحملة الاغتيالات هي وسيلة من وسائل فرض المعادلات السياسية من طريق القوة العسكرية.
تمر القضية الفلسطينية في مرحلة حرجة دوليا ولذلك لابد من الرد. ورد الضعيف عسكريا ليس دائما بالتخلي عن حقه وحقوقه بل استعادة خطابه التأسيسي الذي يؤكد حقوقه كاملة غير منقوصة وتجديد تأكيده حقه التاريخي. فمادامت القوة تصنع الحقائق برأي بوش فلماذا لا يكون الرد عليها بإعادة التمسك بكامل الحق من دون تنازل عن شبر؟
فالمسألة واحدة ومن لا يستطيع استرداد الشبر فلماذا لا يطالب بالمتر مادامت سياسة القوة هي الفيصل بين الحق والباطل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 592 - الإثنين 19 أبريل 2004م الموافق 28 صفر 1425هـ