نظّر الكثيرون حول مبدأ الصدمة والرعب Shock & Awe قبيل الحرب الاخيرة على العراق. وهذا مبدأ او استراتيجيّة كان قد كتب عنها الباحث في جامعة الدفاع الوطني خ في واشنطن العاصمة البروفسور هارلان اولمان في العام 1996. وتقوم هذه الاستراتيجيّة على مبدأ صدم العدو وإنزال الرعب في قلبه كي يستسلم من دون قتال، وذلك عبر استعمال كل الوسائل المتوافرة.
فاجأ الاميركيّون كلّ المنظّرين في هذا المجال، وذلك عندما اعتمدوا مزيجا من مخطّط حرب الخليج الاولى، إذ سبق القصف الجوّي الكثيف العمليات الارضيّة، والبعض من مبدأ الصدمة والرُعب. فهم قصفوا وخاضوا الحرب الارضيّة في الوقت نفسه. وقد يعود سبب هذا الاختيار، إلى اختلاف الاهداف السياسيّة لإدارة الرئيس بوش الابن، عن اهداف والده في العام 1991. فهو في هذه الحرب، لم يرد تدمير العراق وبناه التحتيّة، انطلاقا من اعتبار نفسه «المحرّر» للعراق!
باختصار، دخل الاميركيون العاصمة بغداد بعد 21 يوما من القتال. ومقارنة مع هذا الانجاز العسكري الكبير، لم تكن الخسائر البشريّة في الجهة الاميركيّة بذات اهميّة. وقد اعتبر التقدّم العسكري الاميركي، الاسرع في تاريخ الحروب التي عرفتها البشريّة.
ماذا أظهرت هذه الحرب؟
أظهرت هذه الحرب الأمور الآتية:
- قدرة اميركا غير المسبوقة في مجال القتال التقليدي، هذا مع العلم ان قوّتها لا تُضاهى في البُعد النووي.
- أظهرت هذه الحرب، كم ان اميركا متقدّمة على غيرها من الدول الكبرى على صعيد إدخال التكنولوجيا في آلتها العسكريّة.
- أرسلت هذه الحرب رسائل إلى من يعنيهم الامر، أنه لا مجال لقتال اميركا، لا في المجال التقليدي، ولا في المجال غير التقليدي.
- أظهرت هذه الحرب ان السبيل الوحيد للوقوف في وجه اميركا، هو عبر التحالف بين القوى العظمى. لذلك نلاحظ أن بعضهم- أي القوى العظمى- كان قد فكّ ارتباطه التحالفي مع العم سام، وراح يغرّد خارج السرب. تندرج في هذا الاطار كل من فرنسا والمانيا. كذلك الامر، منهم من بقي تحت راية التحالف، لا بل وطّد تحالفه ما اميركا، واليابان هي الدليل الساطع. لكن السؤال يبقى في كيفيّة تحقيق التوازن العسكري مع الغوريلا الاميركية. فالواقع الحالي يتطلّب قدرات في كل المجالات لمنافسة الولايات المتحدة، وكل هذا ليس متوافرا حتى الآن.
- أظهرت ايضا حادثة 11 سبتمبر/ ايلول، مكان الضعف الاميركي، ومدى ارتفاع معطوبيّة الجبّار الاعظم. وقد أعطت هذه الحادثة النموذج المثالي لمن يرغب بقتال الولايات المتحدة، وأصبح مبدأ القتال اللاتماثلي هو السبيل الوحيد إلى ذلك Asymmetric Warfare.
بعد ان حقّقت اميركا الامتداد الاقصى لقواتها في العراق - اي عندما احتلّت كل العراق- اعتقد الكثيرون ان الحرب قد انتهت، وأن الارادة الاميركيّة هي التي ستسود في بلاد ما بين النهرين، ومن يجرؤ على استفزاز رامسفيلد، سيتعامل معه الجنرال أبي زيد بالطريقة المناسبة؟
جيش هجومي بامتياز ولكن...
ولكن، كيف تطوّرت الاوضاع بعد هذا الاحتلال السريع؟
بعد وصول الامتداد الاميركي إلى نقطة الذروة، اصبح لابد لهذا الامتداد من ان يتركّز ويثبت في أمكنة محدّدة، أي ان الوجود العسكري الاميركي انتقل من الحركيّة السريعة، والسريعة جدّا، إلى الثبات التام. ومن مناورة القتال الهجومي، إلى الدفاع الثابت ومهمّة حفظ الأمن. وهذه أمور لم يتعود، أو لم يتدرّب عليها الجيش الاميركي. فهو جيشٌ هجوميٌ بامتياز، والدفاع بالنسبة إليه هو مرحلة مؤقّتة يستعدّ ويُحضّر نفسه لمتابعة هجومه فيما بعد.
بعد هذه المرحلة، بدأت القوّات الاميركيّة تعاني من عمليات مقاومة متفرّقة من هنا وهناك. وبدأ شعور العراقيين ونظرتهم إلى الجحافل الاميركيّة تغيّران، من الصدمة والرعب إلى مرحلة الاعتياد والتأقلم مع قدرة وجبروت هذا الجيش. وهذا الأمر طبيعي وإنساني، فكلما اختلط الجيش الاميركي مع الشعب العراقي، وكلما استعمل ما لديه من وسائل خفّت رهبته وهيبته، إذ كان من الطبيعي ان ينسحب وينعزل هذا الجيش بعد إتمام مهمته القتاليّة، كي يحافظ على هيبته، مع تكليف قوات أخرى بمهمّة حفظ الامن. وهذا فعلا ما كان ينقص التخطيط الاميركي لمرحلة ما بعد الحرب. فالقوّات العسكريّة التي قاتلت، هي نفسها التي استمرت في حفظ الأمن. وقد يعود هذا السبب إلى حلّ الجيش العراقي في مرحلة لاحقة. كما ان اميركا كانت قد تفرّدت بحربها، الأمر الذي حرمها من الشرعيّة الدوليّة، وبالتالي من امكان مساهمة بعض الدول بقوات عسكريّة معيّنة.
لم تعترف اميركا، وبالتحديد وزير الدفاع رامسفيلد بأن هناك مقاومة عراقيّة. ومع الوقت، وبعد ارتفاع وتيرة العمليات، اعترف قائد القيادة الوسطى الجنرال جون أبي زيد بذلك. لكن الامر بقي في إمكان رسم استراتيجيّة مناسبة لضرب هذه المقاومة. بدأت المقاومة، أو غيرها ضرب المشروع الاميركي ككل، وفي كل الابعاد، الاجتماعيّة والاقتصاديّة ومن ثم السياسيّة، فكان حادث الامم المتحدة، والصليب الاحمر وغيرها من العمليات.
بعدها قُتل ولدا الرئيس العراقي، ولم تتوقّف المقاومة. أيضا اعتُقل الرئيس صدّام حسين، وأيضا لم تتوقّف المقاومة.
تطورات المقاومة
كيف تطوّرت الاوضاع بعد ذلك؟ بعد ان اقترب موعد تسليم السلطة في العراق للعراقيّين، وبعد ان اعترض الشيعة على الدستور المؤقّت والذي أعطى الاكراد صلاحيات كثيرة، تظهّرت الامور التالية على أرض الواقع:
- تطوّرت عمليات المقاومة بشكل نوعي مهمّ جدّا جدّا. فمن إطلاق القذائف على القوافل الاميركيّة والهرب بعدها، انتقلت المقاومة إلى عمليات زرع العبوات على جوانب طرق الانتقال للاميركيين. وهذا يعني، ان تنفيذ هذه العمليات يتطلّب خبرة متقدّمة في إعداد المتفجرات وأجهزة تفجيرها عن بُعد.
- بعد عمليّات زرع العبوات على جوانب المسالك الاميركيّة، انتقلت المقاومة إلى المجابهة المباشرة مع قوات الاحتلال. فبدل مبدأ «اضرب واهرب»، راحت المقاومة تمارس مبدأ «اضرب واصمد... وجابه».
- لكن التطوّر النوعي الكبير، تمثّل في الانتقال إلى حرب المدن - الفلّوجة هي خير دليل على ذلك. فحسب تاريخ حروب المقاومة، يعتبر الزعيم ماوتسي تونغ، ان المقاومة هي كالسمكة، والمجتمع هو بحرها الذي تعيش فيه. وبهدف ضرب المقاومة، لابد من عزلها عن المجتمع الذي يحميها ويؤمّن لها سُبل الاستمرار. بالإضافة إلى ذلك عمدت هذه المقاومة إلى ضرب خطوط المواصلات للقوات الاميركية، عبر الكمائن وتدمير الجسور.
- في الفلّوجة، اندمجت المقاومة مع مجتمعها، وأصبح من الصعب جدّا على أميركا أن تعزلها عن بحرها، حتى ولو توعّدت أميركا بتدمير المدينة.
- لكن الجديد في الموقف الاميركي، هو انها - اي اميركا - وبعد ان كانت تعتبر المقاومة مجموعة من الارهابيين، راحت تعقد مع هذه المقاومة وقفا للنار، حتى ولو بالواسطة. فوقف النار بين الجبار الاميركي ومجموعة صغيرة يعني ان اميركا راحت تعترف سياسيا بهذه المقاومة. ويمكن لنا هنا ان نجري مقارنة مع ما حصل في جنوب لبنان بين كل من اميركا، «إسرائيل» وحزب الله، وذلك عندما وقّعوا اتفاق أبريل/نيسان 1996.
- إن وقف النار في الفلوجة، يعني حتما ان هذه المقاومة لديها قيادة وسيطرة، وبنى تحتيّة. فهل سنرى ذلك في الايام المقبلة؟ وهل ستنتقل هذه القيادة إلى المستوى السياسي في المرحلة المقبلة كتوازنٍ مع البُعد الشيعي؟
- لكن المفاجأة الكبرى، اتت مع حركة السيّد مقتدى الصدر. فهو قد أقلق الاميركيين، وتابع السيطرة على المدن، الأمر الذي أجبر قوات التحالف من غير القوات الاميركية على ترك هذه المدن، ما اضطّر القوات الاميركية على استردادها عسكريّا. وقد وضع هذا الامر اعباء كبيرة على القوات الاميركية في كل الابعاد، الامر الذي جعل البنتاغون تمدد وقت بقاء حوالي 20 ألفا من القوّات الاميركية في العراق.
في الختام، وعت اميركا مستوى معطوبيتها في العراق، لكنها مصرّة على استعمال القوّة. فهل ستنجح؟ وهل هي في صدد تغيير سلوكها في الوقت الذي يمنح فيه الرئيس جورج بوش شارون وعدا جديدا، يثبّت وعد بلفور؟
العدد 591 - الأحد 18 أبريل 2004م الموافق 27 صفر 1425هـ