أثارت الأيام القليلة الماضية منذ بدء المواجهات المسلحة بين أنصار السيدمقتدى الصدر وقوات التحالف في عموم المحافظات العراقية حالا من الذعر والشعور بالخطر في أوساط الإدارة الأميركية وكذلك بين أطراف عدة أخرى وفي مقدمتها مجلس الحكم المؤقت وبعض دول التحالف، وربما عدد من دول الجوار أيضا.
فالمواجهات التي جرت حصدت عددا كبيرا من الجنود الأميركان وكذلك جنود القوات المتحالفة الأخرى، فضلا عن اختطاف عشرات العسكريين والمدنيين من العاملين مع قوات الاحتلال والتهديد بقتلهم إذا لم تبادر حكوماتهم إلى إعلان استعدادها لسحب جيوشها من العراق.
واعتبر بعض العراقيين هذا التحول - في موقف الصدر وما تبعه من انطلاق للعمليات المسلحة في بغداد والنجف وكربلاء والحلة والديوانية والناصرية والبصرة وغيرها من المدن العراقية والتي التفت مع المواجهة الجارية في المثلث السني المتمثل بالرمادي والفلوجة والموصل - بمثابة الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال، في حين حاول بعض أعضاء مجلس الحكم المؤقت وصفها بأنها أعمال إرهابية تثير الفوضى وتبعد الاستقرار عن البلاد.
ومع ذلك، فإن الضغوط التي أحاطت بمقتدى الصدر بدأت أصلا من بعض أعضاء مجلس الحكم «الشيعة»، إذ سافر ممثل حزب الدعوة إبراهيم الجعفري إلى إيران لحثها على التدخل المباشر عند مقتدى الصدر لدفعه إلى قبول التسوية، وأن يحل جيش المهدي ويشكل بدلا عنه حزبا سياسيا منزوع السلاح. يدخل ضمن العملية السياسية، وحظي هذا الموقف مسبقا بالضوء الأخضر من قبل الحاكم الأميركي المدني بول بريمر.
وفي الوقت ذاته تحرك بعض أعضاء المجلس على الخط الآخر المتمثل بمرجعية السيدعلي السيستاني فتشكل وفد من مرجعيات النجف لمقابلة مقتدى الصدر والطلب منه بأن يحل جيش المهدي وأن يقبل بمنطق التسوية السلمية، ملوحين له بأن يطلبوا من عائلة الفقيد مجيد الخوئي التنازل عن الدعوى التي رفعتها لمحاكمة المسئولين عن مقتل الخوئي، وفعلا أصدرت عائلة الفقيد الخوئي بيانا أعلنت فيه تنازلها عن الدعوى القانونية.
ومع توالي الأيام ازدادت الضغوط على مقتدى الصدر للتعامل مع الوساطات التي تنزع فتيل الأزمة، وبدا الأمر وكأن الصدر خفف من تصريحاته المناهضة للاحتلال أو المحرضة على المواجهة، ولكنه فوجئ بتصريح المتحدث باسم القوات الأميركية الذي قال فيه إن قواته ستهاجم مقر مقتدى الصدر وتعتقله أو تقتله
وأثار هذا التصريح غضب بعض أعضاء مجلس الحكم الذين بدأوا بمفاوضات مكوكية مع الصدر لإقناعه بالتعاون لإعادة الاستقرار والأمن وحل ميليشيات «جيش المهدي»، وانطلاقا من ذلك عبّروا للحاكم الأميركي المدني عن اعتراضهم الشديد لهذه السياسة غير المنسجمة مع مهمتهم لمعالجة الأزمة.
وربما كان هذا التصريح يعبّر عن المأزق الذي تشعر به سلطة الاحتلال من تنامي دور مقتدى الصدر بين قطاعات واسعة من العراقيين. وكان بمثابة المناورة التي انطلقت مع جهود الوساطة المبذولة لتذليل شروط موافقة الصدر على مقترحات الوسطاء ووضعه بين حدين، إما أن يوافق وإما أن يقتل.
ولكن المأزق الأميركي في العراق، تعدى ذلك كله، حتى وصل إلى الطلب الرسمي من إيران بالتدخل لدى الصدر لتسوية النزاع، مع ضمانات بتوفير مستلزمات الحماية والحرية له بالعمل السياسي السلمي.
كل هذه الضغوط جاءت خلال أيام قليلة، الأمر الذي يفسر حجم الخوف والقلق الذي يساور قوات الاحتلال من اتساع الهبّة الشعبية الواسعة ضد الوجود الأميركي في العراق. ولكن ربما يصعب على مقتدى الصدر، وهو شاب لا يتمتع بخبرة سياسية كبيرة أو مشروع استراتيجي واضح المعالم، أن يصمد أو أن يصعّد المواجهة ويغتنم الفرصة التاريخية الفريدة التي أتيحت له في الوقت الحاضر لإنجاز عملية التحرير. وعليه، فإن تراجع هذه الظاهرة وانهيارها قد يبدأ من لحظة استجابته للضغوط وقبوله بالوساطة، وفي هذه الحالة سينتهي أمره لاحقا، وربما تظهر قيادات بديلة يبحث عنها العراقيون في المستقبل لتكون قيادة ثابتة ولا تقبل بأقل من انسحاب القوات الأميركية من العراق
العدد 590 - السبت 17 أبريل 2004م الموافق 26 صفر 1425هـ