العدد 590 - السبت 17 أبريل 2004م الموافق 26 صفر 1425هـ

الاستبداد: رؤية المفكر وممارسات النظام السياسي

فايز سارة comments [at] alwasatnews.com

.

لعل الاستبداد بين اهم الظواهر التي ميزت الحياة العربية المعاصرة، وتركت انعكاساتها السلبية، ليس فقط على العلاقة بين السلطة والشعب، بل مدت ظلالها الى كل العلاقات الانسانية في المجتمعات العربية مستندة الى صيغة الاستبداد بين الحاكم والمحكوم، لتصير في جوهر العلاقة التي تحكم القوي والضعيف، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، المتعلم والجاهل الى آخر تلك الثنائيات من علاقات القوة والفرض والاكراه.

وعلى رغم اهمية تجسيدات الاستبداد على نحو ما تظهر في العلاقات داخل المجتمع والجماعات، وفي العلاقة ما بين افراد المجتمع، فإن الاساس في الاستبداد فكرته وثقافته، ثم في طبيعة العلاقات التي يرسمها النظام السياسي مع المجتمع ومواطنيه، وهي علاقات لا يمكن فصلها عن فكرة الاستبداد وثقافته السائدة، التي غالبا ما تستند الى الخصوصية، ثم تستعير من الواقع نظاما مستبدا، او طبقة، او فئة، لا يلبث شخصٌ أن يتزعمها، ليصبح تعبيرا ورمزا للاستبداد في فكرته وممارسته.

والحديث عن موضوع الاستبداد في الواقع العربي، يفترض بالضرورة استذكار المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي، وهو بين قلة من المفكرين العرب على مدى نحو قرنين ممن وقفوا عند موضوع الاستبداد، وقالوا فيه كلاما مهما، بل إن الكواكبي صاحب «طبائع الاستبداد» هو صاحب القول الاهم في الموضوع، ودفع أدوات المستبدين الى اغتياله في خطوة يمكن القول إنها ألحقت أشد الاضرار، ليس فقط بالرجل الذي خسر حياته، بل بالعرب وثقافتهم، وكان يمكن للكواكبي أن يضيف كثير من القول في وصف وتحليل الاستبداد وأثره المدمر على الحياة العربية، ما كان سيوسع حدود الثقافة والفكر العربيين المناهضين للاستبداد، ويخفف عن العرب معاناتهم منه.

ولأن الكواكبي على هذا المستوى من الصلة بموضوع الاستبداد، فإن من الاهمية بمكان العودة اليه، وتلمس فكرته عن الاستبداد ومظاهره في سياق التجربة التي عاشها الكواكبي منطلقا من حلب التي ولد فيها في ظل السلطة العثمانية وصولا الى القاهرة التي اغتيل فيها تحت ظل الاحتلال البريطاني الذي كان يحكم مصر.

وأهمية العودة الى الكواكبي، تكمن في صلته بالحياة العربية المعاصرة، والتي تعود الى أمرين: أولهما تردي الواقع العربي الذي يجد تعبيراته في أمور كثيرة بينها حال الاستبداد القائمة والمعممة، وفي استغلال الدين لخدمة مصالح وفئات، والاجحاف اللاحق بالمواطنة، واختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، اضافة الى استشراء الفساد والمحسوبية في الدولة والمجتمع.

أما الامر الثاني في صلة الكواكبي بحياتنا المعاصرة، فهو الدعوات المتواصلة إلى إصلاح الحال العربي، بما يضمن واقعا أفضل، يمهد الى دخول العرب الى جانب غيرهم من شعوب العالم للمساهمة في صوغ المستقبل العالمي.

والكواكبي، كان بين أبرز وأهم المفكرين العرب الذين اشتغلوا على الامرين في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بل يمكن القول إنه كان الاهم بينهم والأكثر وضوحا سواء في كشف الظاهر والمستور في الواقع الذي رسخه وجود العثمانيين وولاتهم، ومن ثم العمل بكل صلابة الانسان المفكر من اجل محاربته، ورسم صور أخرى للمستقبل.

ولا تنفصل انشغالات الكواكبي في جانبيها الفكري والسياسي عن طبيعة التكوين والحياة التي عاشها، بل إن حياته وفقا لملاحظات الذين درسوه، ودققوا في تفاصيل حياته ونتاجه، كانت متطابقة الى حد بعيد ومنسجمة مع انشغالاته. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ ولد الكواكبي في حلب، كان الاستبداد والفساد والمحسوبية وسوء الادارة العثمانية بين معطيات ترسم ملامح الحياة في الدولة، وخصوصا في الولايات العربية، التي كان يجري فيها استغلال الدين من جانب العثمانيين لتكريس سيطرتهم على غيرهم من شعوب الدولة، وكان يجري استغلال الدين من جانب الفئات السائدة ضد الفئات المستضعفة.

وكانت هذه الاختلالات بين أهم الأسباب التي فتحت عيون الكواكبي على الترديات القائمة في الحياة العربية، وساعد في هذا التفتح واقع ثقافي معرفي اكتسبه من بيئة متعلمة، كانت تحيط به في المستويين العائلي والاجتماعي، وهو بين عوامل أثرت على توجهاته اللاحقة في ابتعاده عن العمل التجاري الذي كانت تمارسه عائلته، وعدم توافقه مع الاشتغال في سلك الادارة العثمانية في ولاية حلب، وقد اسندت اليه وظائف ادارية مهمة منها رئاسة بلدية حلب، ورئاسة المحكمة فيها، ثم رئاسة غرف التجارة في حلب.

لقد اختار الكواكبي أن يكون عين المجتمع، وأن يصير صوته في آن معا، ورأى أن الطريق الى ذلك، يكمن في الاشتغال بالصحافة، التي كان بابها قد فتح للتو في الولايات العربية، فتوجه للعمل محررا لصحيفة «فرات» الرسمية، لكنه استقال وغادرها، لانه لم يجد نفسه فيها، متوجها الى صحيفة، تكون صوته، فأصدر «الشهباء»، أول الصحف السورية في العام 1877، وكان له من العمر اثنان وعشرون عاما، وبعد عامين من ايقافها النهائي أصدر صحيفته الثانية «الاعتدال» التي لم يكن حظها أفضل في ظل الاستبداد والفساد القائم، فتم توقيفها كسابقتها.

وحاول الكواكبي للمرة الثالثة أن يكون صوت المجتمع من خلال صحيفة يصدرها في منفاه بالقاهرة بعيدا عن نظام الاستبداد والفساد العثماني، فأصدر صحيفته الثالثة «العرب» آملا أن الظروف افضل لصدور صحيفة حرة، لكن الخديوي أوقف «العرب» بعد ثلاثة اعداد فقط نتيجة حملاتها على السلطان العثماني ونظامه الاستبدادي الفاسد، وهو أمر أكدّ ان السلطة هي السلطة في موقفها من أن يأخذ أحدٌ ما على عاتقه القيام بدور عين وصوت المجتمع.

وغضبُ العثمانيين على الكواكبي مرده انتقاده الشديد للطابع الاستبدادي للدولة وولاتها، وللفساد الذي كانت تغرق فيه، ثم معارضته المظالم التي تقع على الجمهور، وهي مظالم معمّمة بكل معنى الكلمة، لا يستثنى منها سوى النفر القليل من حاشية وخدم السلطان أو الوالي وقوتهما الضاربة، وكل ذلك جعل الكواكبي هدفا لانتقام المسئولين والمتنفذين العثمانيين، وبينهم والي حلب كامل باشا الذي احال الكواكبي الى المحاكمة بتهمة «العمالة لدولة أجنبية»، وهي تهمة كادت تؤدي بالكواكبي الى الاعدام، ثم كانت غضبة جميل باشا والي حلب الآخر الذي زجّ بالكواكبي في السجن وصادر منزله ومزرعته. ويميل معظم المؤرخين الذين بحثوا في حياة الكواكبي إلى قول، إن موت الرجل انما كان بفعل قيام احد عملاء السلطان العثماني عبدالحميد بقتله بالسم، وإن كان تقرير طبيب الخديوي قد حدد سبب وفاة الكواكبي بأنها ناتجة عن «أزمة قلبية».

لم يكن الكواكبي شخصا عاديا، وما كان مجرد واحد من رجالات النخبة العربية التي تابعت الشأن العربي العام أواخر القرن التاسع عشر، بل كان من المميزين حقا، فهو ربط بين الواقع والطموح، فكشف عن حيثيات الواقع ومآسيه وآثاره المدمرة ليس على حياة الافراد بل على حياة الامم والشعوب ومكانتها في العالم، وهذا جعله يدعو الى تغيير ما هو واقع عبر فضح القائمين عليه، ومن خلال دعوة الجمهور للثورة على الواقع القائم وتغييره، وتولت كتاباته تلك المهمة بامتياز، وكان منها كتاباه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» ومادتهما الاساسية مقالات نشرت بعد تدقيقها في صحيفة «المؤيد» القاهرية، التي كان يصدرها الشيخ محمد يوسف.

واستعادة بعض مقولات الكواكبي، تكشف من جهةٍ أهمية ما كتب، ومن جهة ثانية، تبين أهمية تلك الكتابات بالنسبة إلى الحياة العربية المعاصرة، التي لا تحتاج الى كتابات الكواكبي فقط، بل إلى أشخاص مثله يقومون بما قام به قولا وعملا.

لقد كتب الكواكبي يصف الاستبداد بالقول إنه «الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الامة رابطة معينة، معلومة مصونة بقانون نافذ». والامة - حسبما يرى الكواكبي - «جامعة سياسية اختيارية لكل فرد حق إشهار رأيه فيها»، والحكومة «وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل ادارة شئونها المشتركة العمومية»، والعدل «ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كل مؤثر غير الشرع والحق»، وهو يجزم، أن «الامة، أية أمة كانت، ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والاهداء والثبات».

وتقودنا حياة الكواكبي وفكره للوقوف عند ظاهرة النظام السياسي العربي الراهن بعد أكثر من مئة عام على رحيل الرجل، إذ تغلب صفة الاستبداد على النظام العربي القائم، والمحكوم بطبقات أو فئات أو جماعات، تمارس استبداديتها على الاكثرية مستندة إلى ثقافة وفكر أساسهما تدجين الجمهور، بعد أن وصل ممثلوها الى سدة السلطة في شروط استثنائية سواء عن طريق انقلابات عسكرية، او باتفاقات تواطؤ مع سلطات استعمارية كانت تحكم بلادها. وتتضمن عملية التدجين سلب الارادة، وتدمير القدرة على الفعل، والحرمان من الحقوق بما فيها حق الاختيار، وجعل الجمهور مسيّرا وفق ارادة الحاكم الفرد بصفته ممثلا مفوّضا عن جماعته الأقلوية الطبقية أو الدينية أو الطائفية أو الجهوية، وهي صفات قد يتداخل ويشترك بعضها مع بعض آخر.

إن واقع الاستبداد، يفرض وعيا بديلا عن الوعي الحقيقي والطبيعي، وغالبا ما يصير الوعي - في ظل الاستبداد المغطى بمضمون عقائدي - مختزلا في شعارات تُنتَحل لها صفة مبادئ، يسهل حفظها وترديدها، لتتحول إلى مقياس للأفكار والمواقف والسلوك والأهم إلى معيار للإخلاص. ثم يضاف الى ذلك، القيام بحقن الايديولوجيا المبسَّطة في المجتمع عن طريق نظم التعليم والإعلام والترفيه بصورة تدريجية، وينطبق هذا الأمر على كل مجتمعات الاستبداد ذات الطبيعة الايديولوجية من الشيوعية السوفياتية، إلى القومية العربية إلى الاسلامية، وغالبا ما جرى فيها تقسيم المجتمع إلى أقلية حاكمة، تحظى بالرعاية والتمييز، مقابل أكثرية خاضعة ومغيّبة.

ووفقا لآليات السيطرة والتحكم، التي تخترعها أنظمة الاستبداد الايديولوجي من خلال هيئات تراتبية، يتم تشخيص قيادة النظام في شخص واحد، لا يلبث تغييب عمل هذه الهيئات، أو تباعد مدى حضورها، أن يجعل منه حاكما مستبدا على نحو ما صار إليه حال نظام البعث العراقي في ظل صدام حسين، أو النظام الاسلامي في السودان، أو النظام الاشتراكي في اليمن الجنوبي، وكلها انظمة أقامت دكتاتوريات، لكن نظام صدام حسين في العراق، كان أكثرها قسوة وفجاجة

العدد 590 - السبت 17 أبريل 2004م الموافق 26 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً