في مسرحيته «تاجر البندقية» يتناول كاتبها وليام شكسبير شخصية حقيرة أطلق عليها اسم «شايلوك». شايلوك هذا صاحب مال واحترف مهنة القروض بفوائد عالية الأمر الذي أدى الى انهيار الكثير من أصحاب المؤسسات أو الملاكين ونجح في السيطرة على أراضيهم وأملاكهم حين يأتي موعد الدفع ويعجز الدائن عن سداد قرضه.
حبكة المسرحية تبدأ حين يصل الدور الى أحد الدائنين المفلسين فيعجز عن السداد أو اعادة الرهن لأنه ببساطة لا يملك شيئا لتغطية القرض. وهنا يقرر شايلوك أن يقتطع كتلة من اللحم من كتفه مقابل القرض الذي عجز عن سداده.
شايلوك يعرف أنه خسر ماله وان لحم كتف الدائن لن يفيده ولن يعيد ماله ولكنه يصر على فعلته الشنيعة لسبب وحيد وهو حب الايذاء. لحم الكتف لا يعيد ماله ولكنه يؤذي الدائن ويجعله عرضة للهلاك.
فشايلوك (هذه الشخصية الكريهة) ليس صاحب مال يراكم أمواله بالحرام فقط بل انه شخصية تأصلت في تكوينها على حب الإيذاء والتلذذ بأوجاع خصومه حتى لو كان الوجع (الألم) لا فائدة منه ولا يعيد الحق الى نصابه.
شخصية شايلوك هذه تذكر برئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون. فشارون (شايلوك) يعرف تماما أن «مذكرة التفاهم» أو «رسالة التطمينات» أو «وعد بوش» كلها لا تفيد. فهي مجرد ورقة غير قانونية ومخالفة للقانون الدولي وتحتاج الى سلسلة مراجعات وموافقات لتصبح نافذة المفعول. فالورقة لا قيمة لها لأنها تحتاج الى موافقات من أصحاب الأرض والجهات المعنية من السلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن واللجنة الرباعية (الاتحاد الروسي، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، والولايات المتحدة)... ولكن شايلوك (شارون) أصر عليها لأنها فقط تؤذي الآخر وتزيد من أوجاع الطرف الفلسطيني.
شارون (شايلوك) يعلم أن واشنطن أعطته وتعطيه عمليا أكثر بكثير من الورقة. ويدرك أيضا ان السياسة الأميركية في طاقمها الحالي أكثر تطرفا من «اسرائيل» في العداء للفلسطينيين والعرب والمسلمين. وهو يعرف أن القوات الأميركية تضحي من أجله وتقوم بجزء كبير من مهمات الدور الاسرائيلي. وان ما قدمه بوش لحكومة شارون في ثلاث سنوات من اشعال حروب الكراهية ضد العرب والمسلمين يساوي ويزيد أحيانا عما قدمته مجموع الإدارات الأميركية خلال 30 سنة. وعلى رغم ذلك أصر على نيل اعتراف خطي ذليل من رئيس أكبر دولة في العالم ليس لإهانة بوش وانما لإذلال الدول العربية وزيادة الأوجاع والأذى بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة سياسيا وانسانيا.
الأذى من أجل الأذى. واقتطاع اللحم من كتف الشعب الفلسطيني لن يفيد «اسرائيل» ولكنه يضر بالسلطة الفلسطينية ويزيد من أوجاعها. هذا هو كيد شايلوك الجديد الذي برع في التفنن في استخدام مهارة اللعب على الغضب الأميركي للنيل من صدقية القرارات الدولية. شايلوك الجديد أحسن الظن في سلوك بوش وادارته وانتهز الفرصة ليقتنص ضعف المترشح الجمهوري للرئاسة الأميركية ليزيد من ضعف صورة أميركا أمام العالم العربي التي تلاشت قيمتها الى درجات متدنية.
بوش بدوره لم يخيِّب ظن شايلوك الجديد فهو أعطاه ما يريد مقابل حفنة من الدولارات والأصوات لدعم ترشيحه لدورة ثانية. فوعد بوش لشارون ليس بعيدا عن استراتيجيته الشاملة وهو ذو صلة بالنزعة الانقلابية التي طالت عموم الثوابت في السياسة الأميركية التقليدية.
بوش يقود ادارة هي أصلا منقادة من قبل حفنة شريرة من الأيديولوجيين العنصريين تكره العرب والمسلمين وترى ان سياسة القوة تغير المعادلات على الأرض. وما ذكره بوش عن الوقائع التي تغيرت على الأرض الفلسطينية في العقود الأخيرة ينسجم مع استراتيجية واشنطن الحالية التي ترى أن القوة تغير المعادلات وتكسر الموازين بسرعة زمنية قياسية.
كلام بوش ظرفي - انتخابي ولكن تداعياته السياسية خطيرة على الاستراتيجية الأميركية المنحازة تقليديا لتل أبيب. فهذا الكلام صب النفط على النار وأعطى ذريعة لسياسة شارون مقابل وعود يرجح ألا تنفذ في السنوات المقبلة.
شايلوك عندما قرر اقتطاع اللحم من كتف الدائن كان يعرف انه لن يأكله ولن يستفيد منه لاسترجاع ماله ولكنه فعلها للاقتصاص والانتقام والأذية. وشايلوك الجديد عندما انتزع ورقة الاعتراف (شهادة حسن سلوك) من بوش يدرك أن هذه الوعود تحتاج الى مرجعية دولية غير أميركا لتثبيتها قانونيا ولكنه قرر أن يفعلها حبا بالانتقام والاقتصاص وزيادة أوجاع الشعب الفلسطيني.
شارون يعلم أن الكلام الأميركي يعدل سياسة اقليمية ولكنه ليس بالضرورة يتمتع بالغطاء الدبلوماسي من الشرعية الدولية... ولكنه فعلها تيمنا بشايلوك
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 590 - السبت 17 أبريل 2004م الموافق 26 صفر 1425هـ