الحديث المستمر عن تطوير مسارات التعليم الثانوي وتطوير التعليم الحكومي بدأ يتجه إلى الطريق الأفضل. وهناك الآن «مدارس المستقبل» ومشروعات ادخال التكنولوجيا الرقمية وزيادة التدريب للمدرسين. ويبقى السؤال الأهم: ما هو المطلوب من كل هذا التطوير؟ هل هو تغيير أسماء المواد وإضافة جزئية هنا أو هناك؟
أعتقد أن أهم مخرجات التعليم هي تخريج طالب يفتخر بأنه سيبقى «طالب علم» مدى الحياة. فالمدرسة يجب أن تكون من أجل زرع حب التعلم وحب العلم والإدمان على مهنة حياتية يقوم بها كل فرد وهي «التطوير الذاتي»، وهذا هو مصداق التوجيه النبوي «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد».
كثير من الناس يفتخرون بأنهم أصبحوا «أساتذة» ولكن في عالم اليوم لا يوجد «استاذ» بالمعنى الصحيح، وأي شخص يعتقد انه «استاذ» فإنه كتب نهاية نفسه بنفسه. هذا الكلام لا أقوله أنا شخصيا وإنما تقوله التجارب الإنسانية الماثلة أمامنا. «الاستاذ» هو الشخص الذي اكتمل علمه وأصبحت مهمته «تعليم الآخرين»... أما التلميذ فهو الذي لم يكتمل تعليمه وهو مازال ينهل من العلم يوميا لتطوير ذاته.
عالم اليوم ليس عالم الأساتذة، وإنما هو عالم التلاميذ. وهذه الحقيقة انتبهت إليها الدول المتقدمة منذ الثمانينات وتوجهت جميع المؤسسات إلى تحويل نفسها من موقع الاستاذية إلى موقع التلمذة بحيث تفتخر المؤسسة اذا وصلت إلى مستوى «Learning Organization»، بمعنى المؤسسة التلميذة. فالمؤسسة التي تعتبر نفسها تلميذة يعني أنها تتطور يوميا، ويعني أنها تعتبر نفسها بما لديها من انجاز، مهما كان باهرا وناجحا ومسيطرا على المجال الذي تتخصص فيه، انها لاتزال في بداية الطريق لمزيد من النمو والتعليم والتدريب.
المدرس في المدرسة الحديثة ليس «استاذا»، وانما «مساعد للتلاميذ»... انه يساعدهم لكي يعلموا أنفسهم بأنفسهم، فهم تلاميذ أبديون ويحتاجون إلى أن يتعلموا ويتعلموا حتى آخر يوم في حياتهم. ولا يوجد أفضل من يعلمهم سوى أنفسهم. ولذلك فإن المدرس ما هو إلا مساعد لهم، يساعدهم ليتعلموا كيف يعلمون أنفسهم، وهو مساعد لهم يرشدهم لتحصيل المواهب الإنسانية.
وفي مقال سابق، تطرقت إلى المواهب الأساسية التي يتوجب على كل تلميذ تحصيلها لكي يصبح تلميذا مدى الحياة (وبالتالي ناجحا مدى الحياة). هذه المواهب هي: معرفته بالرياضيات إلى مستوى يؤهله إلى الدخول في عالم اليوم، ومعرفته بلغته العربية وباللغة الانجليزية التي أصبحت من دونها لا يستطيع المرء الاتصال بالعالم الخارجي، ومعرفة كيفية العمل مع الآخرين ضمن فريق واحد لأن عالم اليوم هو عالم العمل الجماعي وليس العمل الفردي، ومعرفة التلميذ بتقنية المعلومات، واخيرا معرفة التلميذ كيفية التعبير عن نفسه وكيفية كتابة الرسائل باللغتين العربية والانجليزية. هذه هي اهم المواهب التي يحتاجها التلميذ لكي يصل إلى مستوى «التلميذ الأبدي»، ومن دونها فانه سيصبح شخصا لديه شهادة مكتوب عليها عبارات تقول انه تخرج من الثانوية ليصبح تائها وضائعا في عالم لا يحتاج إلى أشخاص يحملون شهادات، وانما يحتاج إلى تلاميذ يعشقون التلمذة ويدمنون التعليم والتدريب الذاتي في كل يوم من أيام حياتهم
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 590 - السبت 17 أبريل 2004م الموافق 26 صفر 1425هـ