العراقيون بالاجمال محبطون ومصدومون من دوامة العنف التي ارتفعت وتيرتها على نحو كبير خلال الأسبوعين الماضيين، والاسئلة التي تطرق رؤوسهم في أجواء القلق والجزع الذي رسبته آلة الحرب الأميركية باهاليهم في الفلوجة، قد ولدت لديهم القناعة بأن المقبل من الأيام سيكون أسوأ ولاسيما ان القوات الاميركية عازمة على تكرار نموذج الفلوجة في أكثر من مدينة ومنطقة عراقية وخصوصا ان التجربة أثبتت ان لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي تعرف القوات الأميركية كما سلطتها في العراق استخدامها.
«الوسط» حاولت ان تستطلع آراء بعض الشخصيات العراقية فيما اذا كانت حوادث الفلوجة ترفع من وتيرة المقاومة العراقية للاحتلال. فكانت الاجابات متباينة كتباين الميول الفكرية لاصحابها. فقد اعتبر استاذ الدبلوماسية في كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد واحد ساكني الفلوجة حسين الجميلي، ان العراق مقبل على فوضى عسكرية ومن العنف والعنف المضاد، أكثر مما جرى في الساحة العراقية خلال عام من الاحتلال. ويقول الجميلي «ان ما تسمى بالمقاومة تفتقر الى برنامج سياسي وبالتالي ما تفعله تحول الى كارثة وفوضى وهي لا تمثل سوى تمرد ناشط عبر العنف من دون سواه». والجميلي كغيره من الناشطين السياسيين من النخب العراقية، يعتقد ان الواقع الحالي في الفلوجة، يمثل عملية خلط للأوراق، ولكن الانكى فالمدينة ذات الثلاثمئة ألف نسمة، أضحت ميدانا لتصفية الحسابات في العراق بين تنظيم القاعدة وسواه من التنظيمات الارهابية والأميركان. ويضيف الجميلي «والخاسر الأكبر من هذه المواجهة هو العراق كيانا وشعبا». وإذا كان الجميلي يؤكد ان من يده في النار ليس كمن يده في الماء، يرى عبدالرزاق العيثاوي إن المقاومة العراقية نتيجة طبيعية للفجوة الواقعية لعدم الفهم بين قوات التحالف وسيكولوجية المجتمع العراق، ويحدد العيثاوي، الباحث في معهد الإدارة والمستقل لخدمات المجتمع المدني، وهو أحد المراكز التي انتشرت بعد سقوط النظام السابق، بان السبب ليس في كيفية التعامل مع أهالي الفلوجة، في مطالبتهم تسليم الأشخاص الذين مثلوا بجثث المقاولين الأميركيين، وانما في ذلك التعامل مع العراقيين من مرتبة أدنى، لأن القوات الأميركية بسبب من ثقافتها، لا تفهم غير لغة القوة.
وإذ يتفق الجميلي مع هذا الرأي، إلا انه يشدد على اعتبارات قبلية وعشائرية لا يمكن للجندي الأميركي أن يفهمها في مضمون إهانة رجل عراقي أمام زوجته! مثل هذا الأمر مرفوض وغير مقبول في الأعراف العشائرية، وتراكم الأخطاء الأميركية التي وصلت إلى حدود مهاجمة مخادع النساء من دون إشعار حين تدهم المنازل في الهزيع الأول من الليل، هي التي تشجع التمرد بين الناس، ويتساءل «ماذا يفعل ابن الفلوجة أو غيره من العراقيين المتشابهين في تقالديهم العشائرية امام هذا النوع من الممارسات المهينة والتي تمس كرامة الفرد والانسان»، ويقول: «ربما اليوم الفلوجة هي الهدف وغدا غيرها من مدن العراق»، ويعيد طرح السؤال الأصعب في المعادلة الحالية، ماذا سيحصل عندها؟
القيادي في حركة المؤتمر الوطني مضر شوكت التي يتزعمها احمد الجلبي، يقر بأن الأمور متشابكة، ولكن بتقديره يبقى العراقيون ينظرون إلى الأضعف في المعادلة وهم أهالي الفلوجة، ويتعاطفون معهم. ويتابع «والمشكلة الحالية ان من يتفاوض الآن مع أهالي الفلوجة من العراقيون إنما يتفاوض باسم الأميركيين، والمطلوب أن يتفاوض العراقيون باسم أهل الفلوجة مع الأميركيين وليس العكس، ولاسيما مع إمكان اشتداد التصعيد العسكري في الأيام المقبلة، تحت عنوان «التفاوض مع استمرار القتال».
ويؤكد شوكت؛ الذي عاد الى العراق مع طلائع المعارضة العراقية السابقة للنظام المخلوع والتي توصف بأنها عادت على ظهر دبابات الاحتلال «ان المفاوضين العراقيين قد أخطأوا عندما غيبوا هذا السؤال، ماذا بعد؟ وقبلوا التفاوض وفقا للشروط الأميركية، وذهب الوفد العراقي، سيان من كان في عضويته، ليمثل شروط السفير بول بريمر». ويضيف «لا أتصور ان هذه هي الطريقة الصحيحة، فمبدأ القوة في التفاوض مرفوض، ولا يمكن حل هذا المشكل لفترة طويلة». ويشير شوكت «ان الحال الأصعب التي تمثلها الفلوجة لا يتجسد فقط في تسليم المجرمين الذين مثلوا بالجثث الأميركية، ونزع سلاح الإرهابيين أو المقاومة مهما كان الوصف المستخدم، بل ان الحال اليوم تتجسد في التعامل مع حال الاستئثار والتغييب لشريحة عراقية، التي يراد لها أن تنتهي قبل موعد30 يونيو/ حزيران المقبل وهو استحقاق انتقال السيادة للعراق، وتكرار سيناريو الفلوجة ممكن في مناطق أخرى للأسباب ذاتها».
ومن وجهة نظر الباحث في الإدارة الاستراتيجية عبدالصاحب صالح، بان إدارة التحالف في العراق قد افتعلت موضوع الفلوجة ومشكلة السيدمقتدى الصدر لاسباب تتعلق بموضوع تسليم السيادة بالتخلص من الميليشيات المسلحة، وتصفية الأجواء السياسية داخل العراق بما ينسجم والرؤية الأميركية قبل استحقاق نقل السلطة.
ويتفق مع «نظرية المؤامرة» الأميركية العيثاوي، بقوله «إن الحوادث الأخيرة تمنح المراقبين ذلك الاستنتاج بان كل التجارب الأميركية الحديثة ومنها ما طبق في العراق، بان القوات الأميركية لا تفهم غير لغة القوة، وفشل هذه القوات في التعامل مع العراقيين واضح». وتابع «نحن لا نرى غير ذلك الجندي القلق، والمستنفر على دبابته التي تتجول في شوارعنا، ولم نتعامل إلا مع التصريحات الوقحة التي تظهر في وسائل الإعلام التي تتكلم عن العراق وكأنهم مجرد شعب من الدرجة الثانية، وهذا الارتباك، يرجح نظرية المؤامرة، التي قد تبدو للبعض مجرد تشاؤم، ولكنها بموضوعية تبدو هذه النظرية ترتبط بمشروع كوني أميركي مفتاحه العراق، لاسيما مع تكرار الكلام عن مشروع الشرق الأوسط الكبير».
بدوره قيس العزاوي القيادي في حركة الاشتراكية العربية لا يرفض نظرية المؤامرة التي يقول أصحابها إن القوات الأميركية في سلوكها المبيت في هذه الحوادث، إنما تهدف إلى عدم تسليم السيادة في موعدها المحدد، ولن تنقل إلا سلطة منقوصة للعراقيين باعتبار ان العراق شعبا وحكومة انتقالية بحاجة إلى استمرار وجود قوات الاحتلال. ولكن العزاوي يبدي ملاحظاته عما جرى ليقول «كشفت الحوادث الدامية ان الأطراف المتصارعة سواء قوات التحالف أو القوى المناهضة لها، انها جميعا لم تقدر حجم الكوارث التي يمكن أن تقع من جراء هذه الأعمال غير المدروسة، فمن ناحية دخلت الأطراف المناهضة للاحتلال في معركة غير منسقة، ومن ناحية أخرى، دخلت قوات الاحتلال في معركة بجبهتين، هي الأخرى تفتقر للحكمة وشاب تصرفاتها العجرفة وارتكاب جرائم بشعة بحق السكان المدنيين باتباع أسلوب العقاب الجماعي».
والواضح من خلال الآراء المطروحة ان غالبية هذه الآراء تتفق على تحليل الواقع، ولكن لا أحد منها باستطاعته تجاوز ذلك نحو طرح تصورات استشرافية عن المستقبل الذي دائما ينظر اليه عبر المرآة الأميركية، أو عبر فوضى يطلق عليها «مقاومة» كما يؤكد حسين الجميلي، يقابل ذلك وجود الكثير من القوى داخل العراق وخارجه تزايد على الدم العراقي المسفوح في مقاومة الاحتلال لأسباب حقيقة، تتعلق بتصرفات جنوده، فيأتي من يربط هذه المقاومة العراقية الصرف، بتنظيم القاعدة، ويشدد «مطلوب وقف نزيف الدم العراقي، لا نريد تصفية حسابات على ارض العراق بين أميركا وغيرها، وإذا كان المطلوب تحرير العراق من الاحتلال، فالواقع السياسي وحده الكفيل بهذا الموضوع، وبعد فشله يكون لكل حادث حديث»
العدد 589 - الجمعة 16 أبريل 2004م الموافق 25 صفر 1425هـ