ليس غريبا أن يصدر عن الإدارة الأميركية الحالية هذا الموقف الانقلابي في قضية تاريخية شكّلت تقليديا نقطة توتر دائمة في علاقات الدول العربية واستقرارها الداخلي وكانت أحد أسباب الاضطراب في العلاقات العربية - الأميركية. فالادارة الحالية منذ وصولها إلى البيت الأبيض اتسمت سياستها بالانقلاب على كل ما رسمته واشنطن من علاقات ومعاهدات مع دول العالم. فهذه الإدارة مثلا انقلبت على كل الاتفاقات الموقعة مع «الاتحاد السوفياتي» السابق ولجأت إلى صوغ وجهات نظر مختلفة مع روسيا وحتى حليفها الأوروبي. وهذه الإدارة أيضا دشّنت سياسة خرق القرارات الدولية وتجاوز الاجماع في مجلس الأمن حين قررت الذهاب وحيدة إلى الحرب على العراق.
ليس جديدا إذا أن تلجأ الادارة الأميركية الحالية إلى الانقلاب على سياستها في وقت يمر فيه الرئيس جورج بوش في ظروف صعبة في العراق والكثير من العالم وبات بأمس الحاجة إلى دعم اللوبي اليهودي في أميركا قبل شهور من موعد الانتخابات الرئاسية.
بوش في موقف صعب بعد أن اكتشف أن هجمات سبتمبر لا تعطيه التفويض النهائي والمطلق لفعل ما يريده من دون رقيب أو دفع ثمن. إلا أن حسابات بوش الخاطئة لم تدفعه، كما يبدو، إلى اعادة النظر باستراتيجيته بعد النتائج المخيبة التي توصلت إليها ادارة واشنطن. فبوش من خلال «مذكرة التفاهم» التي قدمها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون يؤكد من جديد استمرار الإدارة الأميركية في سياسة الانقلابات المتتالية على ثوابت من الصعب تجاوزها من دون خضات كبيرة وردود فعل قد لا تكون مناسبة لمعركة الرئاسة.
ينطلق بوش في «مذكرة التفاهم» ممّا يسميه الوقائع التي تغيرت على الأرض في العقود الأخيرة لصوغ مذكرته الخطية لشارون التي أكدت لتل أبيب استعداد واشنطن لاعادة النظر في سلسلة نقاط تعتبر أساس المسألة الفلسطينية. فبوش في مذكرته يعد شارون باعادة النظر في ثلاث نقاط رئيسية: الأولى، حق اللاجئين بالعودة. الثانية، تثبيت المستوطنات في الضفة الغربية. والثالثة، اعادة النظر في الانسحاب إلى حدود 1967.
هذه التنازلات السياسية التي قدمها بوش تنطلق من فكرة «الوقائع التي تغيرت على الأرض» إلا أنها في المقابل تعتبر شهادة حسن سلوك من ادارته لشراء أصوات اليهود ودعم اللوبي القوي في حملته الانتخابية.
إلا أن الصفقة التي يريدها بوش ظرفيا ستكون لها تداعيات جوهرية على استقرار الوضع فيما يسميه «الشرق الأوسط». فهذه الوعود التي صيغت مؤقتا لأهداف انتخابية (انتهازية) سيكون ثمنها أكبر بكثير من قيمتها السياسية لشراء الأصوات في معركة رئاسية.
كلام بوش خطير للغاية وينسجم مع استراتيجيته العامة. فهو من أجل حفنة من الأصوات وكمية من المال أقدم على تعطيل قرارات دولية صدرت باجماع أعضاء مجلس الأمن في العامين 1967 و1973، وهو أيضا عطّل من امكانات قيام دولة فلسطينية في المستقبل لأن كلامه يشجع شارون على المضي بخططه التوسعية والاستيطانية ويعرض مستقبل «مشروع السلام» في المنطقة لهزّات سياسية جديدة.
كلام بوش لا يتناقض مع خطته الكبرى ويدفع نحو مغامرات عسكرية أيضا. فهو من أجل كسب التأييد الإسرائيلي في طموحاته الانتخابية تخلّى عن النظرة الأميركية المؤيدة تقليديا لـ «إسرائيل» معتمدا الوجهة الإسرائيلية المتطرفة في النظرة إلى «السلام» في المنطقة وحل المسألة الفلسطينية وفق المعايير الصهيونية. فبوش من خلال وعده لشارون بتعزيز قدرات «إسرائيل» الدفاعية لتثبيت هذا الانقلاب الأميركي يعني موضوعيا انه يشجع تل أبيب على المزيد من المغامرات العسكرية والاستيطانية. وهذا الأمر لا يزعزع التوازن السكاني في فلسطين بل انه يهدد الدول العربية المجاورة ويدفع المنطقة نحو مواجهات إذا لزم الأمر.
ليس غريبا أن يصدر عن بوش هذا النوع من الكلام السياسي في ظل إدارة اتسمت استراتيجيتها بالانقلاب الأيديولوجي على معاهدات واتفاقات سابقة. المخيف في الموضوع أن إدارة بوش تبيع ما تبقى من صدقية لسياستها في المنطقة العربية لقاء حفل انتخابي مؤقت. فبوش يظن أنه يشتري الأصوات بالسياسة مقابل وعد لن يكون من السهل تفكيك بنوده من دون ثمن مقابل يريده شارون أو غيره من الإدارة المقبلة.
بوش أوقع إدارة واشنطن في ورطة لحسابات ظرفية ومؤقتة وشارون قبض ثمن سياسته الهجومية (الاستيطانية - التوسعية) مقابل وعد بتأييده في معركة رئاسية. بوش باع وشارون قبض والنتيجة من سيشتري «السمك في الماء»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 589 - الجمعة 16 أبريل 2004م الموافق 25 صفر 1425هـ