في الفترة الأخيرة حضرت عددا من المؤتمرات والندوات التخصصية التي تعالج الأوضاع العربية من مختلف أوجهها، واتيحت لي الفرصة لمناقشة مجموعة من الاختصاصيين العرب والمهتمين بالشأن العام، كما توفرت لدي حصيلة من أوراق ممتازة قدمت في هذه المؤتمرات والندوات. وسأستعرض الموضوعات التي تطرقت إليها في الحلقات. ويبدو أن بيروت تتسع لما تضيق به عواصم عربية أخرى فيما يتعلق باحتضان وإبقاء المنظمات العربية غير الحكومية ومعالجة القضايا العربية من وجهة نظر أخرى.
الإصلاح العربي هل هو ممكن؟
انعقد في بيروت بدعوة من مركز القاهرة وجمعية عدل اللبنانية المنتدى العربي الأول في الفترة من 19 إلى 22 مارس/آذار الماضي، وكان الهدف من عقده هو مناقشة قضية الإصلاح العربي: إصلاح الأنظمة العربية وإصلاح النظام العربي المتمثل في جامعة الدول العربية ووكالاتها المتخصصة، وتقديم استخلاصاته إلى القمة العربية التي كان مقررا انعقادها في تونس في الفترة من 27 إلى 28 مارس. وجاء عقد المنتدى في بيروت بعد أن رفضت تونس انعقاده بموازاة القمة على غرار ما يجري في العالم سواء في دافوس أو كنكون. دعيت ( إلى المؤتمر منظمات من المجتمع المدني من غالبية الدول العربية.
قدمت في المنتدى أوراق عمل تعالج تجربة الإصلاح في عدد من الدول العربية مثل المغرب ومصر والسودان وسورية والبحرين، وكذلك أوراق تتعلق بقضايا الإصلاح مثل موقف الإسلاميين من الإصلاح، والصحافة والإصلاح وحقوق الإنسان والإصلاح والتنمية والإصلاح. كما قدم الخبير في الاسكوا كمال عبداللطيف عرضا لتقرير التنمية الإنسانية لعام 2003.
ومن جملة القضايا التي طرحت في المنتدى ما يأتي:
إن توجه الأنظمة العربية إلى الإصلاح جاء في معظمه استجابة للتوجه الأميركي بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، فبعد أن ركزت الولايات المتحدة على قضية التعاون الأمني والعمليات العسكرية في أفغانستان والعراق فإنها توجهت إلى معالجة ما تعتبره البيئة التي تفرخ الإرهاب في الشرق الأوسط والتي يجب معالجتها جذريا، فكان مشروع الشراكة الأميركية الشرق أوسطية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن بعده الشرق الأوسط الكبير. وقد أصبح ذلك الهم ضاغطا بعد سقوط نظام صدام حسين في 9 أبريل/نيسان 2003، وتساقط تماثيله في الساحات العامة في دلالة ذات معنى. صحيح أن بعض الأنظمة العربية أقدم على خطوات إصلاحية قبل ذلك، ولكن الموضوع أضحى ملحّا وذا أولوية في ظل الإلحاح الأميركي.
وفي ضوء تجارب الإصلاح لأكثر من بلد عربي، فإن الحاكم العربي مهما خلصت نواياه لا يريد إصلاحا جذريا، ولا يمتلك الإرادة السياسية لذلك، فهو يريد إصلاحا ينزع فتيل التوتر، ويخلق مؤسسات وبنى ديمقراطية شكلا مع القدرة على التحكم بها، واكتساب شرعية شكلية، وإرضاء الغرب وخصوصا أميركا، واحتواء أو تصفية الحركة الإسلامية الأصولية.
والأنظمة العربية الحاكمة لا تثق بشعوبها، وكما قال أحدهم «إذا خرج الإصلاح من تحت السيطرة فستنفلت الجماهير». وبناء عليه فإنها غير مستعدة لرفع الوصاية عن الجماهير أو تحييد الدولة في الصراع السياسي والتنافس للوصول إلى الحكم. ولذلك ستستمر في سياستها باحتواء مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات وغيرها، وفي الوقت ذاته ستدعم حزب الحكم ونقابات الحكم وجمعيات الحكم بإمكانات الدولة، حتى تظل هي الفائزة في أي تنافس شكلا وتبقى أحزاب المعارضة ونقابات المعارضة وجمعياتها مهشمة، ولكنها ضرورية كديكور ديمقراطي. أي أن تداول السلطة وهو أساس الديمقراطية مستبعد.
لقد جرب العرب الثورات والانقلابات والتي ارتدت وبالا عليهم، لذلك فهناك شبه إجماع على أن النضال الجماهيري السلمي هو الطريقة الوحيدة لإجبار الأنظمة على تقديم تنازلات تدريجية ينتج عنها تحوّل نوعي من خلال انتخابات عامة برلمانية أو رئاسية مثلا.
والتكلّس والاستبداد والبيروقراطية واحتكار السلطة وإن كان سمة الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة، فإن من يطرحون أنفسهم بديلا وخصوصا أحزاب المعارضة أو النخب السياسية والثقافية يعانون هم أيضا من هذه الظواهر. إن قيادات أحزاب المعارضة «حيث يسمح بذلك» في عدد من الدول العربية هي ذاتها لعقود وقد شاخت، وهذا ينطبق على عدد كبير من الاتحادات والنقابات والمنظمات الجماهيرية أو الفئوية الأخرى سواء كانت قطرية أم قومية، لذلك فالمطلوب ثورة فكرية وتنظيمية وثقافية داخلية في هذه المؤسسات وفي المجتمع العربي الذي يعيد إنتاج الاستبداد والتسلط.
ويلاحظ عزوف الشباب والنساء عن العمل السياسي والتطوعي عموما، وهناك اتهامات للجيل الجديد بأنه عبثي وغير مهتم بمصير أوطانه وأمته الخ... ولكن الواقع هو أن القيادات التقليدية في الدولة والمجتمع ومؤسساته هي التي تحتكر مراكز القيادة حتى الدنيا منها وتهمش الشباب والنساء. والحقيقة أنه لدى منعطفات معينة يندفع الشباب والنساء العرب إلى الشوارع سواء احتجاجا على العدوانية الأميركية أو الصهيونية أو في مواجهة السياسات المحلية الظالمة.
بعد أربعة أيام من المداولات الصريحة والنقد الذاتي قرر المشاركون في المنتدى إرسال مذكرة مفتوحة إلى مؤتمر القمة العربي وجامعة الدول العربية، أكدت أنه لا خيار إلا الإصلاح الجذري أو الطوفان، وأن الإصلاح العربي تأخر كثيرا وهو مطلوب لذاته وليس إرضاء للولايات المتحدة وأجندتها المعروفة. كما أكدت المذكرة أن التذرع بقضية فلسطين لإبقاء الأوضاع كما هي بما في ذلك حال الطوارئ المديدة باطل من أساسه، لأن العدو الإسرائيلي وهو يحاربنا لم يتخلَّ عن ديمقراطيته. كما أنه وباستثناء دول الطوق فإن باقي الدول العربية غير مشتبكة في صراع مع العدو، عدا أن دولتين من دول الطوق (مصر والأردن) في حال سلم مع «إسرائيل» والأخريان (سورية ولبنان) في هدنة معها. ورغم المخاطر المحدقة بهما فان ذلك ليس مبررا لتغييب الإصلاح الجذري والديمقراطية التي ستعزز القدرات العربية في مواجهة التحديات الخارجية.
كان من بين حضور المنتدى مندوب عن جامعة الدول العربية جاء ليقدم صورة عن المداولات العربية بشأن «الميثاق العربي لحقوق الإنسان»، وكان واضحا أنه فاقد الحيلة مثله مثل بقية الحاضرين، ولكنه استمع ونقل الصورة إلى الأمين العام للجامعة عمرو موسى، المتحمس بدوره لإصلاح الجامعة العربية، وقدم مقترحات محددة لذلك، ولكنه أيضا فاقد الحيلة.
إن أي زعيم عربي مستعد لأن يستمع إلى مندوبه بل موظفه العادي لدى الجامعة وليس إلى عمرو موسى أو إلى خبير عربي فما بالك بممثلي منظمات المجتمع المدني. ولكن الأخطر من ذلك هو عجز الزعماء العرب عن الاجتماع أصلا، وتسويفهم في معالجة استحقاق الإصلاح، وإذا اجتمعوا فهم فاقدو الإرادة السياسية لاتخاذ ما هو مطلوب، ولن تخرج القمة العربية إذا انعقدت عن القرارات البلاغية التي لا يقصد بها التنفيذ أصلا.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 588 - الخميس 15 أبريل 2004م الموافق 24 صفر 1425هـ