العدد 588 - الخميس 15 أبريل 2004م الموافق 24 صفر 1425هـ

الجزائر توافق على حكم برأسين على النهج التركي

بين بوتفليقة والذئاب الرمادية

جعفر صفوان comments [at] alwasatnews.com

أحرز عبدالعزيز بوتفليقة فوزا كاسحا بحصوله على 83,5 في المئة من الأصوات، ضامنا بذلك عهدة رئاسية ثانية لخمس سنوات مقبلة، ذلك، إذا سارت الأمور طبيعية في بلد المفاجآت والمليون شهيد. فالمقربون من الرئيس المنتخب يتحدثون عن تغييرات في ظل الاستمرارية في حين يواصل خصومه، وفي طليعتهم المترشحين الخاسرين، تأكيد العزم على «مواصلة النضال». على أية حال، يمكن القول إن الجزائر قد دخلت حقبة جديدة لا تخلو من الدقة على رغم النصر الكاسح للرئيس بوتفليقة. فإذا كان هذا الأخير يريد النجاح في مهمته، فعليه أن يبتعد منذ البداية، عن فكرة تصفية الحسابات السياسية مع خصومه، وأن يرسم منذ الآن، وللمرة الأولى والأخيرة، حدود سلطته... وسلطة الجيش، المتعارف على تسميتها بالفعلية.

في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام المحلية والأجنبية تعلن ملامح لمعركة كسر عظم بين عبدالعزيز بوتفليقة وابرز منافسيه، علي بن فليس، كان الدبلوماسيون في السفارة الأميركية بالجزائر يرددون أمام محاوريهم طوال الشهرين اللذين سبقا الاستحقاق الرئاسي أنه لن تكون هنالك مطلقا دورة ثانية؟ وأن جميع العناصر النفسية والسياسية والاقتصادية متوافرة كي يضطلع الرئيس الحالي بولاية ثانية. ومن أهم هذه العوامل، استعادة الجزائريين حياة طبيعية بعد سنوات من حرب أهلية وخوف شبه يومي، ذلك بغض النظر عن التدني المستمر لمستويات المعيشة، وأيضا اعتراف الغرب، الأميركيين والفرنسيين تحديدا بأن النظام الجزائري هو حليف صادق في حربه ضد «الارهاب الإسلامي». وأخيرا، الزيادة الخارقة في عائدات الهيدروكربورات التي سمحت بتشكيل احتياطات من العملات الأجنبية بلغت 31,5 مليار دولار بنهاية العام 2003، ناهيك عن الخفض التدريجي للدين الخارجي وخدمته.

لكن هؤلاء الدبلوماسيين لا يعلقون، من جهة أخرى على ما يبدو أهمية كبرى على تشكيل معارضي بوتفليقة في النتائج وزعمهم بحصول تزوير. ويرون أنه من الأفضل وجود ديمقراطية ولو صورية تحظى بغطاء من الجيش بدلا من وجود حرب أهلية تعزز مواقع التيارات الإسلامية المتشددة التي لن تلبث أن تهدد مصالح بلدهم في المستقبل. أما فيما يتعلق بالآفاق المرتقبة، والمرتبطة تحديدا بالمحيط الإقليمي للجزائر، فيعتبر هؤلاء الدبلوماسيون أن الرئيس المنتخب لديه ما يكفي من المشكلات الداخلية، ما سيمنعه من العودة لإحياء فكرة «القوة الإقليمية الرائدة» التي سيطرت طوال عقود على مخيلة القادة الجزائريين، وخصوصا بعد الاستقلال، من بينهم عبدالعزيز بوتفليقة نفسه. من هنا، فإنه من المتوقع أن يتجنب استفزاز جيرانه، المغرب تحديدا، فيما يخص مشكلة الصحراء الغربية. فإعادة تأكيده خلال احدى حملاته الانتخابية أن «أي عسكري جزائري لن يقدم حياته في نزاع على الصحراء»، هو دليل على هذا التوجه الانفتاحي. في هذا السياق، يعلق أحد الدبلوماسيين الأميركيين المتعاطين بهذا الملف بالقول: «نحن نعتقد أن الرئيس الجزائري يدرك تماما أنه من غير المقبول في الظروف الحالية أن يحصل أي مساس باستقرار منطقة شمال إفريقيا». وفي الإطار التحليلي نفسه، كذلك لناحية المعلومات والمواقف السياسية المتقاطعة، ألمح هذا الأخير إلى أن «واشنطن لحظت أن الرئيس المنتخب قد حظي بدعم من الجنرالات».


اختبار ومحك

فتجاه الخارج - الذي أعطى ممثلوه الذين راقبوا سير الانتخابات، علامة جيدة لناحية شفافيتها - لابد أن تصبح يدا الفائز فيها بغالبية كبيرة من الآن وصاعدا، أكثر حرية مقارنة بالماضي، وخصوصا أن مسار العملية وما تلاها، كشف وجود اتفاق ولو ضمني بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية بما في ذلك جهاز الأمن العسكري، ما يعني أن جميع الرسائل المشفرة التي جاءت من قيادة الجيش في الأسابيع الأخيرة لم تكن في الحقيقة سوى قنابل دخانية لحجب الأساس وتعمد ضياع بوصلة الجميع، إذ إن الاتفاق بين سكان قصر «المرادية» وقادة الجيش قد حصل من أكثر من أربعة أشهر. الآن وبعد عودة بوتفليقة وفريق عمله المكون من الأوفياء والوصوليين على السواء، ما هي آفاق المرحلة في المدى القصير؟

في هذا السياق، تشير بعض المصادر الفرنسية المعنية مباشرة بالملف الجزائري، إلى أن واشنطن وباريس قد أبلغتا مسبقا من يهمه الأمر في هذا البلد، أنهما لن تنسيا هذا البتة مع نشوء رغبة انتقامية لدى الطرف المنتصر. بمعنى آخر، فإنهما لن تسمحا بأن يلجأ الحكم بشكله الجديد إلى تضييق الخناق على الصحافة التي وقفت بغالبيتها ضد إعادة انتخاب بوتفليقة، ولا باضطهاد معارضيه السياسيين «فالذي كان سائدا في العقود الماضية، لم يعد صالحا للتطبيق اليوم»، هذا ما أكده مسئول رفيع في الخارجية الفرنسية رفض الكشف عن اسمه. فعلى رغم هذا الواقع المستجد، يخشى العارفون بطباع وعقلية وتصرفات رجل حقبة السبعينات الانفعالية، بألا يتمكن هذا الأخير من التأقلم بسهولة مع التحولات التي طرأت على العالم.

على هذا السؤال يجيب وزير الخارجية الجزائري عبدالعزيز بلخادم قبل أيام من الاستحقاق الرئاسي، بأن بوتفليقة سيعطي في حال إعادة انتخابه أفضل مثال كرجل دولة متطور لأشقائه العرب. كما أنه سيثبت للغرب - الذي لا يتوقف عن إعطاء الدروس في مجالات الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان - أن الجزائر التي نجحت في وضع حد للحرب الأهلية القذرة، قادرة على حل مشكلاتها الداخلية، السياسية منها والاقتصادية - الاجتماعية. من ناحية أخرى يرى أبرز المقربين من الرئيس المنتخب، التكنوقراط منهم تحديدا، أنه ليس لهذا الأخير سوى ثلاثة هموم رئيسية في هذه المرحلة تتلخص أولا، بالتصدي للمعضلات الاجتماعية (البطالة التي تزيد فعليا وليس رسميا على 36 في المئة والسكن والتعليم والصحة). ثانيا، تصحيح أوضاع القطاع المصرفي بعد سلسلة الفضائح والإفلاسات، وتنقية القطاع المالي من الشوائب العالقة فيه، والتي تشوه صورة الجزائر تجاه الخارج، مانعة بذلك المستثمرين من مقاربة برنامج التخصيص الذي يراوح مكانه منذ عدة سنوات على رغم إعلانه والالتزام بتنفيذه تكرارا. وثالثا، متابعة الطريق لتحقيق «الوئام الوطني»، الضمانة الوحيدة في وجه عودة الارهاب الإسلامي، بحسب قولهم.

فيما يتعلق بالشق الأخير الذي لا غنى عنه بالنسبة إلى انجاز الشقين الأولين، فإن الرئيس بوتفليقة خير من يعلم بأنه لا يمكن التصدي للارهاب من دون موافقة الجيش ومشاركته الفعالة. انطلاقا من هذه الفرضية فإنه سيكون محكوما بالتوافق مع هذه المؤسسة. وبالتالي، فأية رهانات من هنا أو هناك عن إمكان الوقوف بوجهها هو ارتكاب لخطأ قاتل، إذ إنه على رغم إعلانها الحياد وعدم التدخل في الحياة السياسية مستقبلا، فإنها يمكن أن تعود إلى الواجهة في أية لحظة، مخرجة أظافرها بحجة حماية الدستور من التجاوزات، وتعقيد مهمة الرئيس والحد من صلاحياته. لذلك، كان لابد من قيام بعض الحكماء - وهم قلة من المحيطين بالرئيس في طليعتهم مستشاره في القصر، الجنرال المتقاعد العربي بلخير (مهندس انتصاره الحالي والقناة الرئيسية مع الجيش) - بتقديم النصح له للحفاظ على «غضبه البارد» المتغلغل في صدره منذ إبعاده عن الرئاسة لدى رحيل الرئيس هواري بومدين، واستبداله في اللحظة الأخيرة بالشاذلي بن جديد.

ومن بين الاختبارات التي سيمر بها الرئيس الجزائري في الأسابيع الأولى، الاثبات للشعب قبل غيره أنه لم يكن هنالك تزوير، كذلك، يجب عليه كبح جماح مناصريه ومقربيه في السلطة بعد الانتصار، منعا لارتكاب أخطاء تكون لها انعكاسات مستقبلية على المسار العام، يبقى الأهم، وهو إبعاد الوجوه الاستفزازية وأفراد عائلته - وخصوصا أخيه ومستشاره سعيد بوتفليقة - من الواجهة وإفساح المجال أمام الشخصيات ذات الطابع الهادئ في الحوار من أمثال عبدالعزيز بلخادم أو وزير الطاقة والمناجم شكيب خليل.


في الآفاق والتوقعات

يفضل المقربون من بوتفليقة الحديث عن البرنامج الجديد، والتعهدات التي يجب تنفيذها، كذلك، الآفاق الواعدة والنوايا الحسنة بدل الخوض في التحديات القادمة، لكن الذي يبدو أنه يقلقهم بالدرجة الأولى هو كيفية السيطرة النهائية على حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية عبر انتزاعه من علي بن فليس بعد فشل «الانقلاب» الداخلي الذي قاده عبدالقادر حجار (سفير الجزائر في إيران)، ورجل المرحلة القوي كما يرى بعض المراقبين الجزائريين. لذلك، يخشى البعض ألا تتم استعادة الصرح التاريخي والرمزي من دون انعكاسات سلبية على الأرض تؤدي إلى تشويه الصورة منذ البداية. على أية حال، تفيد المعلومات بأن الرئيس بوتفليقة مصر على وضع اليد على الحزب بأي ثمن وتعزيز وضعه وبنياته بسرعة، فهو لا يرغب بالبقاء رهينة لحزب لا يسيطر عليه، أي حزب رئيس وزرائه الحالي أحمد أو يحيى، فهو المخضرم والمجرب يخاف من تكرار السيناريو نفسه الذي حصل مع بن فليس لدى تسلم الأخير الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير. ويرى البعض أن عملية استعادة مفاتيح هذه القلعة لن تكون نزهة على رغم الهزيمة التي مني بها هذا الأخير الذي لم يحصل سوى على 7,9 في المئة من الأصوات. فالخشية من اتهامه بتصفية الحسابات، سيمنعه على الأرجح من استخدام القوة واللجوء للقوانين والدهاء لاستعادة الحزب الذي بحسب بوتفليقة لابد أن يلعب الدور المركزي نفسه الذي لعبه في الحياة السياسية طوال أكثر من عقدين، ما تفسره بعض الأوساط المثقفة وبعض المحللين السياسيين أنه نوع من عودة لحكم وسيطرة الحزب الواحد بواجهة ديمقراطية.


دور الذئاب الرمادية

في سياق الآفاق عينها، تبقى المؤسسة العسكرية اللغز الذي لم يتمكن أحد لا في الداخل ولا الخارج من فكّ جميع رموزه. ذلك على رغم اثبات وقوفها على الحياد ورفض استقبال رئيس أركانها الجنرال محمد لعماري المترشحين المهزومين، علي بن فليس وسعيد سعدي. وإذا كان بعض الجنرالات قد روجوا منذ أشهر الفكرة القائلة إن الجيش سيركز من الآن وصاعدا اهتماماته على تحسين مستوياته المهنية والسهر على تطوير تجهيزاته الدفاعية (كان آخرها شراء 50 طائرة حربية من روسيا) على حساب التدخل في السياسة، فإن بعض المحللين الأوروبيين يرون أن المؤسسة العسكرية لا تفكر مطلقا بالتخلي عن دورها لصالح السياسيين، وخصوصا رئاسة الجمهورية. فالقادة العسكريون يتطلعون لدور مشابه للذي يلعبه جنرالات الجيش التركي المعروفون باسم «الذئاب الرمادية» الذين أثبتوا مرات عدة قدرتهم على التدخل في أية لحظة في السياسة والحسم بالقوة، إلى حد إبعاد السلطة التنفيذية بما فيها رئيس الدولة. ويؤكد هؤلاء المحللون أن هذا النموذج، إن تم استنساخه في الجزائر، سيحظى بمباركة واشنطن وموافقة باريس وممثليها في حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يبقي في نهاية الأمر أيدي بوتفليقة مغلولة

العدد 588 - الخميس 15 أبريل 2004م الموافق 24 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً