عالم اليوم، هو عالم العراق بامتياز. فهو، أي العراق يرسم صورة العالم المستقبلي، ونظامه الموعود. فقلّما حظي بلد بهذا الاهتمام، حتى ان العالم بدا وكأنه يدور، أو بالاحرى ينتظر ما سيكون عليه وضع بلاد الرافدين بعد الاجتياح الاميركي. إنه مركز ثقل العالم، إنه بالاحرى العالم بحدّ ذاته. عليه اجتمع العالم في العام 1991 خلال حرب الخليج الاولى. وبسببه انقسم العالم على ذاته خلال اجتياحه من قبل بوش الابن العام 2003. فلم نعد نرى الغرب مع الغرب، أي اوروبا مع أوروبا، او مع أميركا. وبدا ان هناك أوروبا قديمة، واخرى حديثة. معه عاد عالم الغد والمستقبل إلى واقع الماضي الثقيل. فمن العولمة، والثورة في الشئون العسكريّة، إذ تملك أميركا احدث ترسانة في تاريخ البشريّة. وبعد ان اعتقدت أميركا انها لا تقهر، لانها تملك جيشا سريع الانتصار، ها هو العراق يعيدها إلى واقع الطبيعة البشريّة إذ التناقضات. وها هو العراق يبدو كساحة اختبار لكلّ المبادئ التي كانت تبشّر بها أميركا ولاتزال، وخصوصا في البعد العسكري الاستراتيجي.
أجبر العراق الولايات المتحدة الاميركية على العودة إلى عالم اليقظة، بعد ان كانت تحلّق في عالم الاحلام. العراق، هو التاريخ بكلّ ثقله. وهو، أي العراق، لديه ذاكرة عميقة جدّا وثقيلة في الوقت نفسه. فيبدو الوضع الحالي، وكأنه صورة للماضي الذي لم يعد، لكنّه بالتأكيد التاريخ الذي يتكرّر، مع فارق في الوسيلة، التوقيت واللاعبين. تعتقد اميركا انها ليست من هذا العالم. يذكّرها العراق ان الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الموت، وهي أرضيّة بامتياز - أي اميركا، وهي تنتمي إلى عالم البشر وليس إلى عالم الآلهة إذ الديمومة والاستمراريّة. والمقصود بالموت هو موت الامبراطوريّات وقيامها عبر التاريخ. واميركا ليست الاستثناء، هي قامت كامبراطوريّة، وهي سوف تموت حتما. تعتقد اميركا ان لديها مهمّة ألهيّة، وان الله خصّها بهذه القدرة لتنفيذ هذه المهمّة. وتعتقد انه يحقّ لها ما لا يحق لغيرها. يعيدها العراق إلى حتميّة التاريخ، وإلى موازين القوى. يعيدها العراق إلى أصول اللعبة السياسيّة والدبلوماسيّة، وعلاقتها باستعمال القوّة. يذكّرها العراق ان لاستعمال القوّة حدودا. و أن «القشّة التي قصمت ظهر البعير»، هو مفهوم يصحّ استعماله في أرض الرافدين، كما في منهاتن وواشنطن وفي اهم مركز قيادة عسكرية في العالم، وخصوصا ان الطبيعة البشريّة لاتزال هي هي.
نصحها المفكّر الاستراتيجي الصيني «صان تسو» منذ اكثر من ألفي عام، بألا تدخل المدن للقتال فيها. اعتقدت اميركا أنها الاستثناء فدخلت، وتحاول الدخول، إلى المدن العراقيّة لتتذكّر دروس صان تسو. تُشيّئ اميركا ما تكره التعامل معه. فهي تكره التعامل مع آية الله السيستاني، لانه فقط يأخذ وقته للردّ عليها. ولأنّه يسترجع ذاكرة الشيعة الجماعيّة في العراق سنَدا له، وكيف قاتلوا البريطانيّين. وبعد الاصطدام به، أي بآية الله، يتذكّر الاميركيّون انه حيٌّ ومن هذا العالم، وهو ليس شيئا جامدا، فيغيّروا وعيهم للامر. لكنه ولسوء حظّهم، يكون الضرر قد وقع.
يكره الاميركيون من يُدرك العالم، بطريقة غير طريقة إدراكهم لهذا العالم. لا وسطيّة في التفكير، او لا تلاقي في نقطة الوسط كما ينصح الفيلسوف اليوناني أرسطو. أو لا يتوفّر لدى اميركا، أو لا تعتقد ان المثل العربي «خير الامور الوسط»، قد يصحّ استعماله من قبلها. لكنها مع ذلك تعود إليه، لكن بعد تجارب مريرة ومُكلفة.
تتّهم اميركا الاسلام، أو بعضه بالاصوليّة، فقط لأنه يعود إلى الاصل. وهي تريد فرض مبادئها بشأن الديمقراطيّة وحقوق الانسان ودور المرأة، حتى ولو بالقوّة. ومن دون ان تشعر، تتحوّل هي إلى أكثر الاصوليات تعصّبا لمبادئها، فتصبح الاخطر، فقط لانها تملك وسائل الفرض والاكراه، ولأن من يتسلم زمام الأمور فيها، هو من الذين يعتقدون ان الله كلّفهم بمهمّة، إذ لا يمكن الفشل. جزاؤه - اي بوش - ليس في هذه الدنيا. عزاؤه ان الله سوف يمنحه بركته في الآخرة. لكن نظرته إلى ربّه، هي نظرة انانيّة، أي يريد الله لنفسه فقط.
بناء عليه، تُدرك اميركا ان مهمتها هي تغيير العراق. ويراها العراقيون على انها الجلاّد الآتي من بعيد. لكنها لا تأبه، فهي أدرى بمصير العراقيين وما يناسبهم. أليست تُدرك هي العالم بطريقة مختلفة؟ ألا تنظر إلى نفسها على انها تلعب دور المخلّص؟ ممكن. العراقيون جاهلون لمستقبلهم، وهي الوحيدة التي تعرف. فسرّ المعرفة أعطي لها على طبقٍ من فضّة، هي الاختيار الالهي وهي الخلاص. وما يضرّ إذا ما استعمل بعضا من القوّة؟ وما يضرّ إذا ما تألّم العراقيون، فالألم هو الباب والمدخل إلى الله وإلى طريق الصواب؟
ولأنها تُحبّ العراق إلى هذا الحدّ، ولان العراقيين يعتبرونها الجلاّد، ويعتبرون انفسهم الضحيّة... بدت اميركا وكأنها تتماهى تماما مع الضحيّة. من هنا هي غيورة على العراق، غيرة العاشقة الولهانة على من تحبّ. تحتضن العراق هي، وتمنع عنه الآخرين. لا بل قد تضطر إلى قتل هؤلاء الآخرين في حال منافستها على من تحبّ! لكن مصيبة اميركا، هي كمصيبة ابطال المسرحيات الاغريقيّة - الحبّ من جانب واحد. والكلّ يعرف نهاية تلك المسرحيات - كلها كانت مأسويّة.
ومن كثرة حبّها للعراق، ومن كثرة كره العراقيين لها، ولأن الكره هو الوجه الآخر للحبّ، بدا الاثنان جسما واحدا. هي بحاجة إلى العراق كي تجسّد حبّها، وبالتالي إتمام إنجازها لدى الله. والعكس قد يعني الفشل في المهمة الأسمى. أما العراق، فهو يريد بقاء الجلاّد مُرغما، فقط لان فعلة هذا الجلاّد السيّئة، تستلزم إتمام مهمته حتى النهاية. والعكس قد يكون ثمنا اكبر من ثمن خروجه، على الأقل في الوقت الحاضر. اللهم نجِّ شعب العراق
العدد 587 - الأربعاء 14 أبريل 2004م الموافق 23 صفر 1425هـ