التحقيقات التي بدأها الكونغرس الأميركي بشأن «هجمات سبتمبر» أخذت تكشف عن معلومات لا صلة لها بالضربة أو الحرب على أفغانستان وتنظيم «القاعدة». فالتحقيقات أصلا فُتحت ليس للبحث في موضوعات تهم «الضعفاء» بل لمناقشة قضايا تتعلق بـ «الأقوياء». فالمسألة المطروحة للمعالجة لا تكترث كثيرا بملفات الحرب نفسها أو ضحاياها أو حقوق الإنسان أو سقوط أبرياء أو تحطيم الدول وتدمير اقتصادها وتشريد ناسها واحتمال دفعهم إلى مزيد من الاقتتال أو الاحتراب الأهلي.
النقاش الأميركي ليس هنا. وهموم دافع الضرائب لا تكترث كثيرا بمصير الشعوب ومستقبلهم. النقاش يرتكز على مجموعة منطلقات لها علاقة بالتنافس الداخلي على كسب الأصوات في المعركة الانتخابية، وهذا يعني أن الأسئلة والأجوبة يجب أن تتركز على مسألة محددة وهي: تقصير الأجهزة وضعف الهيئات المولجة بالدفاع عن أمن المواطن.
هذا هو العنوان الداخلي للتحقيقات التي بدأها الكونغرس. فالمهم عند دافع الضرائب هو كشف آليات التقصير، وإلى أي مدى أهملت الإدارة الأميركية المعلومات التي وصلتها، وهل كان بالإمكان تلافي ما حصل لو انتبهت أجهزة الأمن والمخابرات وتحركت قبل الموعد؟ هذه هي حدود التحقيقات وهي كلها عناوين داخلية لا صلة لها بالخارج سواء على مستوى حقوق الإنسان والتجاوزات أو قتل الأبرياء (في بلدة الفلوجة مثلا سقط 709 قتلى في أسبوع واحد) أو حق الدولة الكبرى في احتلال دولة صغيرة والاستيلاء على ثرواتها. فهذه المسائل لا تهم دافع الضرائب الأميركي، فهي من اختصاص الدولة سواء كان يديرها الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي. المهم عند دافع الضرائب هو النتائج المترتبة عن السياسة الخارجية ومدى تأثيرها المباشر على شئونه الداخلية وحياته اليومية... وغير ذلك ليس مهما إذا نجحت الديمقراطية في أفغانستان أو العراق أو فشلت. فالمهم هو صيانة الديمقراطية داخليا، أما كل ذاك الكلام عن العدالة والحقوق والحريات لشعوب العالم الثالث فهو بالنسبة إليه مجرد كلام غير مفهوم وهو بضاعة للتصدير (البيع والشراء) وليست هما يستحق التضحية في سبيله.
ضمن هذه الحدود يمكن قراءة التحقيقات التي بدأها الكونغرس الأميركي بشأن «هجمات سبتمبر». فالسجال الحاصل هو بين الأطراف المسئولة عن أمن المواطن الأميركي ومدى تقصير الأجهزة الأمنية في حمايته... وغير ذلك لا قيمة سياسية له.
وعلى رغم طغيان الجانب الداخلي في السجال يمكن القول إن التحقيقات كشفت عن خلل في المعلومات وضعف التنسيق بين الأجهزة وعدم ثقة الأطراف المحلية ببعضها، إضافة إلى كراهية متبادلة بين الحلقات المكلفة بإدارة أجهزة الدولة ووزاراتها وخصوصا تلك الإجراءات المتعلقة في صلاحيات الدوائر الفيدرالية (المركزية) وتداخلها مع صلاحيات الإدارة المحلية (الولايات).
ومن هذه النقاشات يمكن التقاط مجموعة معلومات تتساقط من هنا وهناك وكلها تشير إلى وجود مشكلات متوارثة أنتجت ما يشبه عدم الانسجام (الارتياح) بين فيدرالية الدوائر المركزية (الأجهزة القومية) والإدارات المحلية (الولايات)، الأمر الذي يؤكد وجود تيار قوي يرفض عمل الحكومة الفيدرالية ويتمنى الاستقلال (الانفصال) بولايته بعيدا عن الأجهزة المركزية. وهذا ما كشفته مثلا عملية تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما واتهم بها المسلمون قبل أن يحسم الرئيس بيل كلينتون الأمر، مشيرا إلى أن منظمة إرهابية أميركية (انفصالية) هي التي قامت بالعملية.
موقف كلينتون كما يبدو أثار آنذاك حنق الفئات التي تكره الأجنبي وتميل نحو الانعزالية والعدوانية ضد الخارج. وهذا الأمر ظهر في شهادة وزير العدل جون اشكروفت حين اتهم كلينتون بالتقصير وإهمال الخطر الإرهابي على الولايات المتحدة.
إنها معركة داخلية. فالحزب الديمقراطي يتهم إدارة الحزب الجمهوري بالتقصير فيرد الأخير ويتهم إدارة الأول بأنه هو من يتحمل المسئولية في اعتبار أن كلينتون كان رئيس الدولة لمدة ثماني سنوات.
هذه المعركة الداخلية جيدة من حيث إنها تعطي فكرة عن صراعات الأجهزة في إطار لعبة المصالح بين القوى التي تصنع القرار السياسي في الدولة الأميركية، ولكنها ليست جيدة لأنها تلهي قطاعات واسعة بأمور بوليسية (ومؤامرات) ومعلومات باهتة وتخفي القصص الكبيرة من نوع لماذا الكراهية؟ كيف تنعكس السياسة السيئة خارجيا على مصالح المواطن الأميركي داخليا؟ وهل يحق للدولة الكبرى انتهاك سيادة الدول الصغرى وإبادة أهلها لتسويق المصالح الخاصة بالشركات المتعددة الجنسية باسم الديمقراطية وغيرها من شعارات؟
هذه الأسئلة لا تهم دافع الضرائب في حوارات الكونغرس. ما يهمه في النتيجة تلك المسائل المتعلقة بوضعه الداخلي... أما الخارج من أفغانستان إلى العراق وفلسطين فهذه أمور يجهلها ولم يسمع بها. وهذا ما تريده الأجهزة المتحكمة بالقرار الأميركي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 587 - الأربعاء 14 أبريل 2004م الموافق 23 صفر 1425هـ