العدد 587 - الأربعاء 14 أبريل 2004م الموافق 23 صفر 1425هـ

الحراسة على الماضي!

إرجاع الزمن إلى لحظة البداية، اختزال، بل هو محْوٌ لتاريخ الإنسان وحضوره وإنجازه منذ أن وجد على سطح هذا الكوكب. وهو اختزال ومحْو يقول فيما يريد قوله - بوعي أو من دون وعي - إن ما عداه من إنجاز وحضور، يظل «عابرا» فيما هو «المقيم» والمحرّك... إن ما عداه يظل ثابتا فيما هو المتحول على مستوى التأثير والإضافة... إن ما عداه متلقٍ وتابعٌ وممتثل، وعليه أن يكون كذلك. مثل تلك الرؤية التي مازال بعض مريديها يؤكدونها... من أن الماضي ضمن تصور تلك الرؤية هو المرجعية المطلقة والوحيدة... تدفع إلى تعميق حال من المسوّغات وتنشئ نوعا من «الحراسة» على الماضي خوفاَ من انفلات الحاضر ومساءلة المستقبل!

مثل تلك الرؤية، هي في العميق من ذهاب السلطة بعيدا عن الحدود التي من المفترض أن تتحرك وتدعو وتبشّر بما تريد التبشير به... وبمعنى آخر، هي قمع وإن اجتهدتْ في تبريره على أكثر من مستوى، إنْ على مستوى القياس كمدخل رئيسي تنطلق منه تلك الرؤية لفرز وتصنيف - وفي النادر - قراءة ما عداها من رؤى، أو على مستوى التقرير !

تكشف مثل تلك الرؤية عن «إكراهات» مدروسة، وعلى رأس أجندتها - من دون أن توحي بذلك - إكراهات تهدف إلى إيجاد «نظمية» تعتقد بها في مرحلة أولى، وتفرضها في مرحلة ثانية. لحظتها لا يعود الحاضر حاضرا بقدر ما يعود «ماضيا» بأدوات تحريك مغايرة... لا يد لها فيه... ولا يعود المستقبل مستقبلا، بقدر ما يعود حاضرا معاصرا ومعاشا له أجندته «المعاينة والملموسة» والتي يمكن تحديد الدقيق من إمكان تمثلها وتطبيقها!

إذنْ هو تواطؤ على المستقبل، وتلك هي الخطورة... فالحاضر في امتداده العربي الإسلامي لا يشي بانقلاب - على الأقل على المدى القريب - من الإملاء في السياسة والاجتماع والتربية و... لا يشي بالمضاد من تلك الرؤية، وبالتالي يصبح الزعم بخلق أو إنتاج حال من «الكونية» المتوازنة على مستوى تلك الحقول ضربا من «التنجيم» بالنظر إلى وضعية التواطؤ تلك وبالنظر إلى تبني الاختزال والمحْو!

مثل تلك الرؤية، تكريس لتوجه «تماثلي»... وحين تُكَرَّسُ حال «التماثلية» تلك، يصبح الحديث عن التعدد ضربا من السماجة والضحك على الذقون، بمعنى آخر هي دعوة إلى «باطل كوني» مقدمته وبالضرورة نتيجته من السنخ ذاته!

مجتمعات هي في الصميم من تحكّم تلك الرؤية لا يُتوقعُ منها غير أن تديرَ ظهرها للمشكلات التي تواجهها... إذ هي جزء من ذلك الاختزال والمحْو... ومثل إجراء كذاك يدفع بتلك المجتمعات إلى أن تكون بمعزل عن حركية العالم في بعدها المتغير والمنتج... وأية محاولة للانعتاق والتمرد على تلك الرؤية تكون بمثابة تعدٍّ على عدد من المفهومات والثوابت... التي تدّعي الخوف عليها: الهوية... الأصالة... الذات الجمعية المتفردة!

تظل الذات «محور العالم»... الذات في بعدها المنطلق للدخول في متطلبات الجماعة والتفاعل مع تلك المتطلبات... بحيث تتحول إلى أداة فاعلة تهدف إلى وضع نفسها في تصرف التحرك والتفاعل الجمعي سعيا وراء الخروج من حال «الخاص» إلى حال «الكوني»... على مستوى التكيّف... الانسجام... التغيير بصفته ضرورة تثبت حركية الحياة!

وفي مواجهة إرجاع الزمن إلى لحظة البداية بكل ما يتطلبه ذلك الإرجاع... والقول ضمن - عدد من المقولات - «بأن ثقافة شعب ما أفضل من ثقافة شعب آخر»، وبشكل قاطع وفي المطلق، تدفعنا إلى إعادة النظر وقراءة ما توصل اليه كلود ليفي شتراوس في عدد من أبحاثه من خلال تأكيده ان التعصب لمثل رؤية كتلك إنما تكشف عن حال من الاستلاب إزاء الثقافات الأخرى... وفي جانب ، هيمنة معايير الثقافة تلك على البشر المنتمين إليها والتبعية لها.

الثقافة التي لا تدشن أسئلتها حول العالم كفضاء كلي ومفتوح إنما ترمي إلى تغييب حال من «التكامل»، وتصرُّ زورا على حال من «التفاضل»!

ثمة تجاذب في الزمن «العربي - الإسلامي» الخاص... أو لنقل ثمة حال من «الهدْر» لتلك القيمة وبمعزل حتى عن النصوص والوصايا والهدْيين القرآني والنبوي... وحين أشرت إلى وضعية إرجاع الزمن إلى لحظة البداية لم يكن ذلك الإرجاع على ارتباط أو صلة بفاعلية وحسمية تلك القيمة بقدر ما هو ارتباط به ضمن إطاره التقريري الجاهز بعيدا عنه وهو في الصميم والمركز من التحكم في فاعليات البدء ونوعية النتائج.

زمن يمعن في «زخرف» الممارسة فيما هو بمنأى عن «لب» الحضور وتأثير ونتائج تلك الممارسة... زمن بمنأى عن النموذج الأول... ولن يكون مقنعا القول: إن ما استحدث واستجدّ في حاضر الزمن يظل علامة فارقة عن بدائية المتاح وقتها... إذ ما تم تحققه يضاف إلى رصيد ما يفترض إنجازه وبنوعية عالية... من دون أن ننسى أن مساحة كبيرة مما أنجز وأتيح من أدوات أنتجها استثمار الزمن لدى الآخر الذي ظل في موضع الاتهام وعرضة لأن يكون تحت مجهر «التفاضل» ومقصى عن الإيمان به كطرف رئيسي في حال من «التكامل»!

زمن عربي - إسلامي، يؤجل الثمرة والنتائج كتبرير لعدم فاعلية الزمن المشهود، والحياة المشهودة، يمثل أنموذجا صارخا لردّة، وتجاوزا لنصوص ووصايا الهديين القرآني والنبوي، فيما أصحابه يتحدثون باسمهما آناء الليل وأطراف النهار!

زمن شائع في «الكلام»... محاصر في «الفعل»... حاضر في «البلاغة»... غائب عن أثر ونتائج تلك البلاغة... ممتد في النصوص... مقلّص في الممارسة... متطاول في الاستشهاد... مغمور في السائد... شاسع في التصور... محاط ومسوّر بالتفسيرات الخاصة!

زمن رصيد أتباعه وإنجازهم «النظْم»... نظْم فوضى توجههم وتعاطيهم مع المصيري... مع أولويات وجودهم... نظْم يذهب حد «المسامرة» واللهو بل والعبث... زمن يطمر الآبار ويحبس الروافد ويسمّم القنوات ويثير حولها فزعا وهولا يدفع جلّ الأمة المنتسبة له إلى اصطفائه كشرّ «مستطير»... زمن هو في الغياب من «الهامش» يطالب بالحضور في «المتْن»... زمن «الحقيقة» عنده مطلقة... فيما هو أسير للمضاف من الغيبي الذي لا علاقة للهدييْن به!

زمن كهذا... حريٌّ بأتباعه ألا يتشدّقوا بانشدادهم وتمثلهم له لحظة البداية... حريٌّ بهم أن يقرأوا ويواجهوا أزماتهم بشكل عملي... عليهم أن يؤسسوا لطرق أخرى في تعاطيهم وفي رؤيتهم وفهمهم للعالم... أن يتجاوزوا ما «كان» إلى ما هو «كائن»!

زمن على أتباعه التفريق بين «قمع» السياسات و«كبت» الفهم للنصوص... إذ ثمة كبتٌ يُسْهرُ عليه ويُراعى من دون قصد... كبت يتولّد من الإصرار على بنْية في التوجه والتفكير والتعاطي وحتى الاتصال... وهو اتصال «حذِرٌ» و«ناقص»، بل «مقطوع»، طالما استأنس بفهمه وتفسيره واستوحش بفهم وتفسير الآخر. زمن على أتباعه الخروج من «التبسيطية الطبقية»... والنفاذ إلى عمق البنية الثقافية.

ثمة تلاشٍ في الزمن الراهن للكونية التي قام عليها الإسلام والفكر الإسلامي، بتوظيفه للزمن خير توظيف... ثمة بديل صُراحٌ لذلك... ويبدو أنه بديل بات مقنعا لكثيرين... بديل يتمثل في تفشي الدويلات وتناسل المذاهب والطوائف! ألم يتحوّل الزمن في ظل واقع كهذا هو الآخر إلى زمن دويلات وزمن مذاهب وطوائف؟ زمن هو في الصميم من التشظي والتجزيء؟

كأنه زمن الأهداف السهلة... كأنه زمن قتل الحيوية في الأمة والاحتفال بزوالها! كأنه الزمن الذي يشحذ أدواته للعنف... العنف المُبارك! العنف الذي يُوجدُ مواسم الإطاحة برؤوس أصرّتْ على الذهاب في اتجاهات معاكسة... فيما القائمون على ذلك الزمن لا يتحمّلون مثل ذلك الذهاب، بعيدا عن التعاليم التي تكرّستْ على هامش الهدْيين القرآني والنبوي!

من رؤية الزمن ذاته الذي نحن بصدده تظل «الحقيقة: سلطة بالضرورة... والطغيان: في صلبها... والمعرفة: طرْدٌ للآخر الذي لا يؤمن بها»!

زمن يضع الموروث في مرتبة النص... لا يستثني من ذلك الموروث جانب التعاطي مع المعنيّ بتفاصيل «البشري»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً