أخيرا نشر البيت الأبيض نص مذكرة سلمت إلى الرئيس جورج بوش في 6 أغسطس/ آب 2001 تفيد باحتمال حصول هجمات لتنظيم «القاعدة» على أراضي الولايات المتحدة.
المذكرة عادية جدا ويمكن أن يصدر منها يوميا الكثير لأنها تتحدث عن أشياء محتملة وتوقعات عامة ومعلومات ليست محددة منسوبة إلى جهات لا يعرف من هي سوى العناصر المكلفة بالمهمات.
المذكرة ليست وثيقة بل مجموعة أفكار مجمعة من هنا وهناك وهي أقرب إلى التحليل الإخباري الصحافي. فالتحليل عادة يقارب الحوادث ويفترضها أحيانا وفي غالبية الأوقات لا يحالفها الحظ أو تكون خاطئة لأنها اعتمدت على التوقعات لا المعلومات المؤكدة.
مذكرة 6 أغسطس ليست دقيقة ومعلوماتها افتراضية تقوم على استخلاص المعلومات من مجموعة وقائع متفرقة من الصعب الاستنتاج منها احتمالات يقينية. فالمعلومات التي اعتمدت عليها المذكرة تعود إلى أربعة مصادر، وهي: مصدر سري (غير محدد)، حكومات أجنبية (غير محددة)، ووسائل إعلام (محطات، صحافة من دون ذكرها)، وأخيرا جهاز (لم يكشف اسمه) ورد ذكره أربع مرات من دون الإشارة إليه بالاسم (يحتمل أن يكون الموساد الإسرائيلي).
يضاف إلى هذه المجهولات سلسلة معلومات صحافية معروفة ولكنها غير مرتبة بطريقة منطقية حتى يقال إن المذكرة حددت فعلا طبيعة العمل المفترض أن تنظيم «القاعدة» كان يخطط لتنفيذه. مثلا تخمن المذكرة أن التنظيم يخطط منذ العام 1997 للقيام بهجمات. لماذا 1997؟ لا تجيب المذكرة بل تسرد سلسلة معلومات صحافية متداولة ومعروفة تستنتج من خلالها أن هناك نية سيئة. لكن النية السيئة ليست جريمة ضد الإنسانية ولا تعتبر إدانة فعلية مادام الطرف المتهم لم يعترف بجريمته.
إذا على ماذا اعتمدت المذكرة للقول إن «القاعدة» تخطط للهجمات منذ 1997. ساقت المذكرة سلسلة معلومات مبهمة من نوع مقابلات أجراها أسامة بن لادن مع محطات تلفزيونية في العامين 1997 و1998. واستنتج التقرير (المذكرة) أن بن لادن أشار إلى أن أنصاره سيحذون حذو رمزي يوسف (المتهم بالتخطيط لهجوم مركز التجارة العالمي في 1993). هذه نقطة. النقطة الثانية تقول المذكرة إن قناعة بن لادن بنقل المعركة إلى الولايات المتحدة ازدادت بعد القصف الصاروخي الأميركي لقاعدته في أفغانستان في العام 1998. بعد هذه النقطة تبدأ المذكرة بخلط التواريخ وتذكر سلسلة معلومات بطريقة فوضوية لا تسلسل يجمعها في سياق معلومات موحدة بقدر ما هي تحليلات منطقية (افتراضية) لا يمكن الركون إليها للتوقع لأنها لا تنطلق من ثوابت بل من استنتاجات. فالمذكرة مثلا تتحدث عن الهجمات التي حصلت على سفارتي كينيا وتنزانيا في العام 1998 من دون ربط بينها وبين قصف قاعدة بن لادن في أفغانستان. فهل القصف جاء ردا على الهجمات أم الهجمات جاءت ردا على القصف؟ المذكرة ضائعة وغير واضحة في هذه المسألة الأمر الذي يؤكد أن سياقها المنطقي والمعلوماتي لا يؤخذ به أو يعتمد عليه قياسا بما حصل في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
المذكرة تائهة حتى في الترتيب الزمني للحوادث. مثلا تتحدث عن خطط لمهاجمة السفارة الأميركية في دار السلام منذ 1993، واعتقال مجموعة في العام 1997، وثم عن «مؤامرة الألفية» في كندا 1999 واعتقال المنفذ الذي كان يريد مهاجمة مطار لوس أنجليس وصلته بأحد مساعدي بن لادن وأن الأخير كان على علم بالمؤامرة الفاشلة. وكل هذه المعلومات مجرد أخبار تناقلتها الصحف وليست بالضرورة صحيحة أو دقيقة لتعتمد كمصادر استخباراتية موثقة.
خلاصة المذكرة ليست مهمة وهي فضيحة للأجهزة الأميركية التي تنفق المليارات من الدولارات للحصول على مجموعة معلومات مشوشة هي أقرب إلى التحليلات الصحافية منها إلى التوثيق المخابراتي.
هذه خلاصة أولى. أما الخلاصة الثانية فإن نشر المذكرة (التي قيل عنها الكثير وتضخمت) في هذا الوقت جاء لمصلحة بوش لأنها فعلا لا تملك دلائل كافية للتحرك... فهي مجرد توقعات واستنتاجات تربط الوقائع والأخبار بطريقة مفككة وغير منطقية. فهل القصد من تضخيم المذكرة ثم نشرها بهذا الإخراج الدراماتيكي هو تأكيد فرضية أن بن لادن هو الذي خطط ونفذ وأن الإدارة الأميركية بريئة من اتهامات التقصير؟ ربما يكون هو القصد. ولكن أعداء السياسة الأميركية كثر وتحديدا في الفترة الواقعة بين 1993 و2001... وبالتالي لا يمكن حصرهم في بن لادن وأفغانستان. ففي هذه الفترة انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وانفجر الاتحاد اليوغوسلافي ودخلت واشنطن في سلسلة حروب أهمها معركتها ضد الصرب (ميلوسوفيتش وكاراديتش). فكل بقايا هؤلاء أعداء الانتصار الأميركي في «الحرب الباردة».
والسؤال، لماذا يُتهَم العرب وليس الصرب مثلا؟ الجواب يحتمل أن يكون عند «الجهاز السري» الذي لم تكشف المذكرة اسمه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 585 - الإثنين 12 أبريل 2004م الموافق 21 صفر 1425هـ