أعرف ان الكثير من النخب العربية التي باتت «مدمنة» على الديمقراطية لن يعجبها ما سأقوله بشأن شلال الدم الذي يسيل في العراق منذ نحو عام. وأعرف انهم مصممون على القاء اللوم على الاستبداد والديكتاتورية والتطرف وارهاب القوى الظلامية بهذا الخصوص! وأعرف ايضا وأيضا أنه لولا حماقات الطاغية صدام حسين وتراكمات سلوكه الكارثي وحروبه العبثية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من حال مزرية يشكو منها الجميع في العراق وغير العراق.
ولكنني أسأل وأتساءل: أما آن الأوان لنأخذ العبرة والدرس؟ أما آن الأوان لأن نضع حدا فاصلا وخطا أحمر بين طموحات وتطلعات وأمنيات - اذا لم نقل أنانيات بل «سياديات» - الفرد والفئة والحزب والطائفة و«الجماعة» والفرقة وبين طموحات وتطلعات وحاجات الوطن والبلاد والأمة أو الجماعة الحقيقية؟
أقول ذلك لأنني سبق ان حذرت ومثلي البعض ممن انتبهوا مبكرا من أخطار الخلط بين حاجات الوطن والقطر والبلاد للاصلاح التدريجي السلمي المتوازن وبإرادة داخلية ومن خلال السعي لبلورة اجماع وطني في كل بلد حوله مهما طال الزمن وبين تطلعات وطموحات واطماع الاحزاب والجماعات والافراد والرموز والفئات والفرق التي تريد تلخيص الوطن والبلاد والأمة في برامجها وتصوراتها الخاصة وعندما لا ترى مجالا لتحقيقها لسبب أو لآخر فإنها مستعدة لتحرق الأخضر واليابس وتستعين بالشيطان كما تقول وتصرح دائما للوصول الى أهدافها بل وتذهب إلى حد القول والفعل بطريقة «عليّ وعلى أعدائي يارب» كما في القول الشعبي، مادامت لم تحصل على ما تريد!
المثل العراقي واضح أمامنا وليس بحاجة إلى دليل أو برهان أو تحقيق أو دراسة معمقة لنصل الى ما اسلفت قوله.
لمزيد من التوضيح اذا ما رغبتم استطيع أنا واياك عزيزي القارئ ان نختار أي بلد أو قطر من اقطارنا العربية والاسلامية هكذا أو بشكل عشوائي ولا على التعيين السعودية، إيران، سورية، باكستان، البحرين، الكويت ...،... الخ. ونطبق عليه ما طبق على العراق، الا تظن بأن النتيجة ستكون تماما كما حصل مع العراق، وربما أسوأ؟! بمعنى ان كل الفئات أؤ الجماعات أو الأحزاب أو الرموز غير الراضية بما هي عليه في بلدانها تستطيع ان تصور الوضع في بلدانها على انه الاكثر سوءا والأكثر تخلفا وان اصلاحه لا يمكن ان يأتي الا بالتحالف مع الشيطان، والمهم ان انجو أنا وعشيرتي ومن معي وليأت من بعدي الطوفان!
أعرف ان الكثيرين من اخوتنا العراقيين سينبرون للقول: ولكن صدام حسين شيء آخر، وانتم لا تعرفونه، ولا يمكن مقارنة ما كان يجري في العراق بأي بلد في العالم، إلى ما هنالك من أقوال وشهادات مأسوية قد يأتون بها من حلبجة إلى القبور الجماعية التي ذهب لي فيها الكثير من أفراد عائلتي بالمناسبة وأقولها فقط على سبيل التأكيد والشهادة على ما يقوله الأحبة المفجوعون في العراق.
ولكن - وألف ولكن هنا - فإن كل ذلك لا يسوّغ لي - ولا لأي أحد - ان اعرّض مقدرات وطن وأمة وشعب بأكمله إلى المجهول من أجل التخلص من الطاغية الذي كان يشدد الخناق عليّ، وانقل الحال الى حال لا أعرف تماما نهاياتها - هذا في الحد الأدنى - أو كما يقول المثل «كالمستجير من الرمضاء بالنار» فاسلم عمليا مستقبل اجيال كاملة الى «الشيطان» الاخطر وهو المجهول هنا في حده الأدنى للتخلص من الشيطان الاصغر، وخصوصا انه كان قد بدأ يشدد عليه الحصار في - حال العراق على الاقل - وعلى غيره بسبب مجمل التحولات العالمية في مسار الاصلاح والتغيير.
بتكثيف اقوى، وبعد الدرس البليغ الذي يبوح به العراق للجميع الآن، وهو ما سبق ان اشرنا اليه طوال أكثر من سنة، فإنه لا يمكن على الاطلاق، بل ومن رابع المستحيلات احراز الاصلاح الوطني المنشود وتحقيق الديمقراطية والتحول السلمي وتحقيق التنمية المستدامة والخروج من دوامة الاستبداد والطغيان والفردية والفئوية عن طريق اشعال نيران الحروب والغزو والعدوان والقتل.
فالصواريخ والطائرات والدبابات وأساطيل العسكر واقبية المخابرات وغرف الظلام التي تخطط للتآمر والاستعانة بمدارس التعذيب الاسرائيلية واشعال دوائر متوالية للاحقاد بين الأعراق والطوائف والاقوام والملل وتمزيق الهويات الوطنية والقومية لا يمكن ان تفرز بلدا ديمقراطيا متعددا فيدرالي ومتسامحا تحترم فيه حقوق الإنسان!
انها اكذوبة فقط لا غير، تشبه اكذوبة اسلحة الدمار الشامل التي لا يمتلكها سوى العدو الاسرائيلي. الذين يرون شلال الدم يسيل في العراق اليوم على يد قوات الاحتلال الديمقراطي المتعدد الفيدرالي! من حقهم ان يحذروا ويتخوفوا على مستقبل أوطانهم من «الاصلاح» الذي يراد إملاؤه عليهم من الخارج ومن «الديمقراطية» المعلبة التي تنتظرهم، أليس كذلك؟! وخصوصا انهم يرون وبأم اعينهم كيف ان العراق الشقيق، العراق الجريح، العراق الشاهد والشهيد ذاهب الى الفوضى والحروب والاقتتال وتوسع دائرة العنف والى المجهول!
والسؤال الكبير الذي يجب رفعه الآن من جديد في وجه الزمر المتعاونة مع الاحتلال وفصائل الاستدعاء التي استدرجت أو هي ادرجت نفسها طواعية في خدمته مبكرا هو: ألم يحن الوقت لتكفروا عن ذنوبكم وتستغفروا لأنفسكم ولو بكلمة اعتذار للشعب العراقي فتدينوا المجازر التي ترتكب بحقه على خلفية عدم تحمل الاحتلال في بقاء صحيفة أسبوعية تصدر في العراق تغرد خارج السرب؟
ألم يحن الوقت لتستغفروا عما كتبتموه ونشرتموه يوما تحت عناوين تقارير بشأن اسلحة الدمار الشامل المخبأة في ساحات المدارس أو المساجد قدمتموها يوما إلى قوات الغزو التي كانت تتأهب للعدوان على العراق، الا انها ثقة ومصداقية، ورفضتم حتى ان تعطوها للأمم المتحدة واجهزتها الفنية باعتبارها غير محايدة؟ العراق الشاهد والشهيد درس وعبرة لمن يريد ان يعتبر. العراق الشاهد والشهيد ينادينا جميعا ليس فقط لنصرته واخراجه من دوامة العبث الذي ادخله فيه اعداءه وبعض «أهله» بل ولنصرة ما تبقى من مروءة وشرف وإباء في عالم بات يفتقر الى ابسط قواعد الصدق والانسانية في العلاقات الدولية
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 583 - السبت 10 أبريل 2004م الموافق 19 صفر 1425هـ