لعل التعبير الأبرز عن تناقض السياسات الأوروبية - الأميركية في الموقف من العراق بعد عام من الحرب عليه، يبدو في التظاهرات التي شهدتها غالبية العواصم والمدن الأوروبية الكبرى، والتي تميزت بمشاركة كثيفة من جانب الأوروبيين. اذ سار في تظاهرة لندن عشرات الآلاف من مناهضي الحرب، وهم يهتفون ضد بوش وبلير، وضد الحرب في كل مكان، فيما كانت اللافتات التي حملها المتظاهرون تتهم رئيس الوزراء البريطاني بلير بالكذب، وقد ردد المشاركون في مسيرة باريس التي انطلقت من ساحة الباستيل هتافات طالبت بانسحاب القوات الأميركية من العراق، وبعضهم حمل صورا تظهر بوش مصاص دماء، تملأ فمه دماء ضحايا الحرب على العراق. واتسمت مسيرة روما، التي ضمت عشرات الآلاف بشعارات مناهضة للحرب، وضد سياسة رئيس الحكومة سيلفيو برلوسكوني الموالية للولايات المتحدة.
واذا كانت تظاهرات العواصم الأوروبية بمناسبة العام الاول للحرب على العراق، أبرزت معاداة الرأي العام الأوروبي لتلك الحرب وللحكومات الأوروبية والأميركية التي قامت بها، والدعوة إلى الانسحاب من العراق، فان تلك التظاهرات تعكس بعضا من مأزق السياسة الأوروبية في التعاطي مع الموضوع العراقي، وهو مأزق ظهر بوضوح قبيل الحرب على العراق ومازال مستمرا، أساسه تصادم السياسات الأوروبية وخصوصا الفرنسية والألمانية مع السياسة الأميركية في العراق. لكن التصادم ترافق مع عجز عن اتخاذ خطوات عملية، تميز الموقف الأوروبي، ما جعل السياسة الأوروبية تصب في النهاية من خلال سلبيتها لصالح سياسات واشنطن نحو العراق وفيه.
لقد عارضت الدول الأوروبية الحرب على العراق، ولم توافق على ذرائعها واهدافها، لكنها لم تتخذ مواقف عملية مضادة في مواجهة الحرب واحتلال العراق، ثم ما لبثت ان اعطت الحرب شرعية دولية في موافقتها على قرار من الامم المتحدة شرع الاحتلال الأميركي - البريطاني.
غير ان الموقف الأوروبي، لم يمنع الادارة الأميركية من ممارسة ضغوط على الدول الأوروبية لاجبارها على تغيير سياساتها في موضوع العراق، وكان بين تلك الضغوط محاولة واشنطن جر الدول الأوروبية للمشاركة بقواتها في العراق على نحو ما ذهبت اليه اليابان وبعض دول أوروبا مثل ايطاليا وإسبانيا، لكن محاولات واشنطن في هذا الاتجاه فشلت، ومثلها كانت نتيجة جهود واشنطن لادخال حلف شمال الاطلسي الى العراق تحت الادارة الأميركية، كما حاولت واشنطن الضغط على الدول الأوروبية من بوابة توزيع حصص العقود العراقية، بمنع الدول التي ناهضت الحرب من الحصول على عقود في العراق، ورفضت واشنطن فكرة روسيا وفرنسا من أجل عقد مؤتمر دولي لمستقبل العراق باعتبارها لا تشكل أولوية بالنسبة الى حاجات العراق الحالية، وهو موقف يشكل امتدادا لرفض واشنطن اعطاء دور للأمم المتحدة بمعزل عن السيطرة الأميركية في العراق طبقا للمطالب الأوروبية.
غير ان تناقض السياسات الأوروبية - الأميركية حيال العراق خلال العام الماضي، ظل محكوما برغبة مشتركة من الجانبين في إبقاء هذه التناقضات عند مستوى هادئ لا تتجاوزه على نحو ما جرت عليه القمة الأميركية - الألمانية بين بوش وشرودر، وكذلك في اللقاءات الفرنسية - الأميركية بما فها لقاءات شيراك - بوش، ولعل السبب الجوهري في ابقاء هذه التناقضات عند هذا المستوى، رغبة الطرفين في المحافظة على مستوى معين من العلاقات في اطار التحالف الغربي الذي وان كان الموقف من الموضوع العراقي يؤثر على وحدته السياسية، فان هناك الكثير من التوافقات في اطاره.
وبطبيعة الحال، فان بين ما يعزز هذا الاطار في محتوى العلاقات الأوروبية - الأميركية حيال العراق أمرين: أولهما عدم قدرة الدول الأوروبية على الذهاب بعيدا في تناقضها مع سياسات واشنطن هناك، والثاني ضغوطات من الداخل الأميركي على حكومة بوش على نحو ما بدت جهود الديمقراطيين للمصالحة مع فرنسا وألمانيا، وفي طلب مجلس الشيوخ الأميركي من الرئيس اللجوء الى الامم المتحدة والاطلسي في تعاطيه مع الموضوع العراقي.
غير ان بقاء تناقض السياسات الأوروبية - الأميركية على هذا النحو في الموضوع العراقي، لا يعني ان هذه السياسات مستقرة، وانها لن تجد تبدلا في طبيعتها، بل ان العكس سيحصل، لكن حصول ذلك سيظل مرهونا بالتطورات الداخلية التي تشهدها البلدان الأوروبية على نحو ما حصل في إسبانيا حديثا من سقوط حكومة ازنار الموالية إلى واشنطن، وصعود الحكومة الاشتراكية التي بات من المنتظر قيامها بسحب القوات الإسبانية من العراق، وأمر كهذا، يمكن ان يحصل في ايطاليا، وهو سيحصل، اذا استطاعت المعارضة البريطانية الاطاحة بطوني بلير من منصبه في رئاسة الوزراء.
وكما هو واضح، فان التأثير في متغيرات العلاقات الأميركية - الأوروبية حيال العراق سيظل محكوما بالمتغيرات الداخلية من جهة ومحكوما بطبيعة العلاقات التي تحكم المعسكر الغربي الذي يضم الولايات المتحدة وأوروبا في آن معا
العدد 582 - الجمعة 09 أبريل 2004م الموافق 18 صفر 1425هـ