مَنْ بادر إلى فتح النار على الآخر؟ أنصار السيد مقتدى الصدر أم جيش بول بريمر؟ ولماذا فُتحت جبهات مختلفة الآن وقبل 90 يوما من الانسحاب الجزئي الذي وعدت بتنفيذه إدارة واشنطن في نهاية يونيو/ حزيران المقبل؟

الأجوبة متناقضة لكن نتائجها الميدانية وضعت القوات الأميركية في زاوية سياسية حادة. ميدانيا أفرطت ادارة الاحتلال في استخدام القوة العسكرية ضد مدن وأحياء وبلدات توزعت على مناطق مختلفة جغرافيا ومذهبيا. وسياسيا أفرطت ادارة الاحتلال في استخدام لغة تدعي أنها قانونية ولكنها كشفت عن ضعف في وعي آليات العلاقات الاجتماعية التي تنتج القيادات في العالمين العربي والاسلامي.

مذكرة التوقيف التي تتسلح بها ادارة بريمر لتبرير حربها ضد الكوفة والنجف وكربلاء والكاظمية ومدينة الصدر أقل ما يقال عنها إنها غبية بامتياز. والمشكلة ان مجلس الحكم الانتقالي المعيّن من الاحتلال يبدو أنه وصل إلى حال من اليأس إلى درجة انه لا يقوم بوظيفة الارشاد واعطاء النصيحة للمحتل وتوجيه تصرفاته والحد من الأخطاء التي يرتكبها بحق شعب عانى الكثير من الاستبداد ويعاني الآن الكثير من أكاذيب وعود الاحتلال.

مذكرة التوقيف غبية وستتحول إلى كارثة سياسية إذا أصر الاحتلال على تنفيذها، لأنها ببساطة ستؤدي إلى مذابح أهلية وسلسلة اقتحامات للعتبات المقدسة ليس دفاعا عن شخص وإنما دفاعا عن مبدأ.

المشكلة أن بريمر يتصرف في العراق وكأن الأخير أصبح ولاية أميركية وهذه كارثة قانونية تضاف إلى سلسلة أخطاء بدأت بها واشنطن منذ اتخذت قرار الحرب على العراق. وها هو الشعب المسكين يدفع ثمن تراكم تلك الأخطاء من حياته وأمنه ومستقبله.

مذكرة التوقيف غبية وكذلك قرار اجتياح الفلوجة. فالادارة الأميركية تتصرف الآن كما فعلت مرارا الادارة الصدامية حين كان النظام السابق ينتقم من الناس والأبرياء عقابا على أفعال ارتكبتها جهات أخرى. التصرف الأميركي في الفلوجة أقل ما يقال عنه انه أحمق ويدل على فشل السياسة في احتواء التعارضات بين المقاومة والاحتلال. وحين تصل السياسة إلى الفشل يتوصل المحتل إلى قرار العقاب الجماعي والقتل العشوائي وتدمير المساجد واحتلال المستشفيات لمنع نقل المصابين وتطويق المدن والأحياء والبلدات لقطع الامدادات والمساعدات الغذائية.

سؤال مَنْ بادر إلى فتح النار على الآخر ليس مهما الآن، لأن النتائج الميدانية كشفت عن خلل عميق في بنية القرار السياسي الأميركي في شقّيه: إدارة الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي.

الأزمة الآن انتقلت إلى الطرفين بعد أن قدم وزير الداخلية استقالته وتبعه وزير حقوق الانسان احتجاجا على تجاوزات حقوق الإنسان... وأخيرا جاءت تصريحات صدرت عن أعضاء المجلس الانتقالي تدين عمليات العنف وتعتبرها مرفوضة وغير مبررة ومخالفة للقانون لتؤكد وجود بداية أزمة عدم ثقة.

أزمة الاحتلال هي بداية نهاية تلك الوعود (الأكاذيب) التي أُطلقت قبل سنة وهي تكشف عن وجود معضلة في قراءة تعقيدات الوضع العراقي وكيف تُصْنع السياسة في العالمين العربي والاسلامي. فالمعارك الشاملة التي اندلعت من الجنوب إلى الوسط والشمال تؤكد مجددا أن الأزمة العراقية مفتوحة على احتمالات مختلفة وان أدوات الحكم التي اصطنعتها واشنطن غير كافية عسكريا وغير قادرة سياسيا على ضبط العراق في حال قررت الولايات المتحدة سحب قواتها جزئيا في يونيو المقبل.

لا شك في أن الوعد بالانسحاب الجزئي فتح الأزمة على أبواب سياسية غير محسوبة. والوعد يعني ميدانيا ترك الأمور بتصرف مجلس الحكم الانتقالي أو اطلاق موجة من التصادم الأهلي للسيطرة على مراكز القرار وتعبئة الفراغات الأمنية. وفي الحالتين يبدو الاحتلال هو الطرف الخاسر في المعادلة. فمجلس الحكم غير قادر ولا يملك الصلاحيات ولا التمثيل الشعبي في وقت تبدو القوى المسيطرة على الأرض هي الأقوى في ادارة البلاد بعد تراجع الاحتلال عن مواقعه.

ربما تكون هذه الحسابات الميدانية هي السبب الذي دفع بريمر الى اتخاذ قرارات عشوائية تقضي باجتياح المدن للقضاء على المقاومة بذرائع تبدو أنها غير مقنعة للعراقيين سواء من جهة مذكرة التوقيف أو من جهة الانتقام من الآمنين ومعاقبتهم على تصرف لم يقترفوه.

الأزمة الآن كبيرة وهي مفتوحة على شقين: جبهة سياسية مع مجلس الحكم، وجبهة ميدانية مع العراقيين. وفي كل الحالات تبدو الأمور تتجه نحو هزيمة الاحتلال ومن معه من أدوات حكم وهياكل ومؤسسات أوصلت البلاد إلى مزيد من الفراغ.

وعدت الإدارة الأميركية الناخب بالانسحاب الجزئي فهل تكون الخطوة الأولى خطوة كبيرة إلى الوراء أم انها ستعاند التاريخ وتغرق في رمال الصحراء؟ الجواب النهائي ليس بعيدا