يستغرب المتابع لتطورات الأوضاع في السودان حدوث حركة تمرد مسلحة في إقليم دارفور في غرب البلاد في الوق
ويعيش في دارفور الكبرى بحسب تعداد العام 1993 حوالي 4,746,456 نسمة ينتمون لقبائل شتى كالفور، البني هلبة، التنجر، البرتي، الهبانية، الزغاوة، الزيادية، الرزيقات، المساليت، المعالية، التعايشة، الميدوب، البرقد، المسيرية، العريقات، العطيفات، الفلاتة، القمر، بني منصور، التعالبة، الدروق، الصليحاب، الميما، الترجم، المراريت، الهوارة والجوامعة... إلخ.
أســـباب الصــراع في دارفـور
1- يحترف معظـــم أهل دارفور الزراعة والرعي كحرفتين أساسيتين، ويتحرك معظم المواطنين بمواشيهم في أراض واسعة يتراوح مناخها من السافنا الغنية إلى المناخ الصحراوي، وتبعا لذلك تختلف درجات الغطاء النباتي، وتتوافر المياه باختلاف فصول السنة، ما يتحتم معه حركة الرعاة في المنطقة طلبا للكلأ والماء الأمر الذي يسبب احتكاكات ونزاعات بين القبائل التي تعتمد في معيشتها على الـزراعة وتلك التي ترعى الماشية والأغنام والجمال، لكن سرعان ما يتم احتواء هذه الاحتكاكات أو الاشتباكات بواسطة أعيان القبائل المختلفة.
وكنتاج للظروف الطبيعية التي اجتاحت المنطقة في الأعوام السابقة مثل الجفاف والتصحر ظهرت خلافات ونزاعات بين القبائل التي تمارس الزراعة وتلك التي تحترف الرعي... وقد كان من الافرازات السلبية لهذه الظاهرة أن لجأ الأفراد تحت ضغط الحاجة إلى تكوين عصابات لنهب وترويع المواطنين الأبرياء، وهو ما يعرف بعصابات «النهب المسلح» التي اتخذت من هذا العمل الاجرامي الذي ينتهك القانون وسيلة لدعم وتمويل النشاط العسكري للمجموعات المتمردة فضلا عمن يقومون بارتكاب مثل هذه الجرائم لمكاسب شخصية. لذلك استوجب هذا الوضع أن تضطلع الحكومة بمسئولياتها وواجباتها في الحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين الأبرياء، كما قامت الدولة بتشكيل محاكم خاصة لضمان سرعة البت في تلك الجرائم نظرا الى ما لها من مخاطر قد تفضي إلى فتنة وحرب أهلية.
2- أدت التوترات الأمنية، والحوادث السياسية في بعض الدول المجاورة لاقليم دارفور عبر التاريخ إلى نزوح عدد كبير من قبائل تلك البلدان، وخصوصا تشاد وإفريقيا الوسطى إلى اقليم دارفور، واستقرت غالبية تلك القبائل بأرض الإقليم، ساعد في ذلك التداخل الأسري واللغوي والتاريخ المشترك للمنطقة التي كانت مملكة واحدة فيما يسمى بـ «السودان القديم» وكانت تمتد من السنغال وغامبيا على المحيط الأطلسي إلى إثيوبيا في أقصى شرق القارة الإفريقية.
3- ومن افرازات النزاعات التشادية الداخلية منذ مطلع السبعينات، فضلا عن القتال الذي استمر في جنوب السودان لعقدين من الزمان انتشار الأسلحة بمختلف أنواعها وتكديسها لدى المواطنين في بيئة يصعب على الدولة تعقبها، وتفاقمت هذه المشكلة في الفترة الأخيرة عندما برز استخدام الأسلحة المتطورة بواسطة عصابات «النهب المسلح» التي أضحت تقلق مضاجع المواطنين الأمر الذي استوجب قيام الدولة بواجبها ومسئوليتها في بسط هيبتها بتدعيم الأمن وتعقب الجناة وتقديمهم للقضاء.
4- على صعيد آخر شهد اقليم دارفور الكبرى استقطابا حادا في مختلف عهود الأنظمة الديمقراطية إذ مارست مختلف الأحزاب السياسية، وخصوصا الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي)، استقطابا لأغراض حزبية اتسم بالطابع القبلي، ومساندة قبيلة على حساب قبيلة أخرى، الأمر الذي عرض تماسك النسيج الاجتماعي في الاقليم إلى الضعف، وأوجد مناخا من عدم الثقة بين قبائل الاقليم.
5- منذ بداية نشاط الحركة الشعبية في جنوب السودان، سعت الحركة الى إيجاد موطئ قدم لها في الاقليم عن طريق تجنيد بعض أفراد القبائل، وتسليحهم.
6- على صعيد آخر، تعرضت دارفور الكبرى، وشمال الاقليم بوجه خاص إلى موجة الجفاف المشهورة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي والتي امتدت لأكثر من عقد من الزمان، ونجمت عنها مجاعة في أكثر من موقع في الاقليم، وأدت إلى حراك سكاني هائل من شمال الاقليم إلى جنوبه الذي يتمتع بموارد طبيعية أفضل بكثير من تلك التي تتوافر في اقليم الشمال. وكان من الافرازات السالبة لهذا الحراك السكاني قيام تنظيمات مسلحة متباينة الأهداف، منها ما هدف للدفاع عن القبيلة ومصالحها والحفاظ على ممتلكاتها رعيا كان أم زراعة، ومنها من وجد في عدم الاستقرار مناخا ملائما لتأسيس تنظيمات للنهب المسلح خدمة لمصالح ذاتية وفردية. وقد انتظمت هذه الجماعات المسلحة في مجموعات معارضة كحركة تحرير السودان «قطاع دارفور» و«حركة العدل والمساواة» وتسببت في إفشال مساعي الدولة السلمية الى معالجة الأوضاع ولجأت إلى حمل السلاح وتأجيج الصراعات وترويع المواطنين وتعريض حياتهم وممتلكاتهم للخطر وممارسة أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي الحقب الماضية جرى عقد الكثير من مؤتمرات الصلح بين الكثير من قبائل دارفور مثل: قمر وزغاوة، البرتي والميدوب، أولاد منصور وأولاد قايد (من قبيلة المهرية)، الهرية وبني هلبة، الرزيقات والمعاليا، القمر والفلاتة، الزغاوة والميما. وتقف هذه الأمثلة دليلا وشاهدا على أن الصراع في دارفور الكبرى ليس صراعا بين عرب وغير عرب، وإنما هو في واقع الأمر صراع قبلي.
جـهـود الدولـة ومبادراتها لاحتواء الوضـع
وتقول مصادر مطلعة إن حكومة الإنقاذ استهدفت منذ تولت السلطة معالجة الأوضاع التنموية في منطقة دارفور في ظل الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة باعتبار ذلك أفضل السبل للوصول لحلول جذرية. وتؤكد الاحصاءات أن ولايات دارفور نالت نصيبا أوفر من غيرها من الولايات في مجالات المشاركة السياسية في الحكم، التعليم، الصحة، المياه، الكهرباء، المطارات والمهابط والطرق. لكن تصاعد العنف من قبل المجموعات الخارجة على القانون والتي أججته عناصر ومؤثرات سياسية لا علاقة لها بالظروف الموضوعية في دارفور لم يساعد على المضي قدما في جهود الدولة التنموية في المنطقة وهو ما دفع الحكومة للمزيد من التمسك بسياساتها الهادفة إلى تحقيق السلام والأمن والاستقرار بتهيئة أفضل الظروف للجهود التنموية التي تمثل العنصر الأساسي في تحقيق الاستقرار والأمن في دارفور. لهذه الأسباب بادرت الحكومة الى اتخاذ خطوات في الجانب السياسي وشمل ذلك الآتي:
تشكيل آلية تنسيقية بين الولايات الثلاث ووفرت لها الأمكانات اللازمة لبسط الأمن وهيبة الدولة والتي بدأت منذ العام 2001 واشتركت فيها قوات الشرطة والقوات المسلحة.
انعقاد ملتقى الفاشر الذي أمّه حوالي 500 شخص من القياديين والدستوريين وزعماء الإدارة الأهلية من أبناء دارفور من كل أنحاء السودان.
قام وفد كبير من قيادات المؤتمر الوطني بزيارة لولايات «دارفور الكبرى» واجتمع بكل الفعاليات السياسية والاجتماعية لحث الجميع على التعايش السلمي بين قبائل المنطقة.
لقاء قيادات الحزب الحاكم مع قادة المتمردين في كل من ألمانيا وفرنسا العام 2002.
لقاءات لجنة المبادرة مع قادة التمرد في بريطانيا في العام 2003.
عشرات الاجتماعات مع زعماء القبائل وفعاليات المجتمع من دارفور بالخرطوم للوصول إلى حل مشترك.
قامت وفود عدة من الهيئة البرلمانية لنواب دارفور بزيارات عدة للولايات الثلاث بحثا عن حلول للمشكلات الماثلة.
بوساطة تشادية قامت الحكومة بتوقيع اتفاق سلام مع المتمردين في أبشى في سبتمبر/أيلول 2003.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 أفشل المتمردون مشروع اتفاق السلام الذي كان يمكن أن يؤدي إلى اتفاق شامل.
في ديسمبر/ كانون الأول 2003 أعلن الوسيط التشادي في أنجمينا انهيار جولة المفاوضات لتقديم المتمردين لمطالب تعجيزية يصعب تحقيقها وخصوصا أنها خارج نطاق اتفاق أبشى الإطاري بين الطرفين الموقع في سبتمبر 2003.
وعلى رغم ذلك تواصلت جهود الحكومة في سبيل الوصول إلى حل سلمي. ففي 25 ديسمبر 2003 تم عقد مؤتمر بنيالا لقيادات بعض قبائل دارفور إذ تم الاتفاق على نبذ الاقتتال وضرورة التعايش السلمي بين الجميع.
في فبراير/ شباط 2004 أعلن رئيس الجمهورية بيانا تضمن الإعلان عن خطوات عملية محددة في سبيل تحقيق السلام، وشمل ذلك العفو العام عن الذين حملوا السلاح ضد الدولة كما تضمن القرار الخاص بعقد مؤتمر السلام والتنمية في دارفور وتبع ذلك تشكيل اللجنة القومية التحضيرية للمؤتمر وتكليفها بالأعداد له. وشمل الإعداد لإنجاح هذا المؤتمر تكليف اللجنة القومية الآتي:
1- تشكيل لجان سياسية لمعالجة القضايا السياسية وبلورة أفضل الحلول للمشكلة.
2- تكوين لجان فرعية للاتصالات مع السياسيين المعارضين وحملة الســـــلاح داخل وخارج السودان للمشاركة في المؤتمر واتخاذ المبادرات الهادفة إلى التمهيد للحل السياسي بما في ذلك إطلاق سراح المعتقلين.
3- تشكيل لجنة لرتق الأنسجة الأخرى في المنطقة وحل المشكلات القائمة بين القبائل وتنشيط وتنفيذ الاتفاقات التي لم تنفذ وشمل تشكيل هذه اللجنة رجال الدين ورجال الإدارة الأهلية.
4- تشكيل لجنة للتنمية لمعالجة الأسباب الأصلية للنزاع على الموارد وتحريك تنفيذ عدد من المشروعات التنموية وبلورة برنامج تنموي متكامل.
5- لجنة للإصلاح لنقل رسالة سياسية إعلامية متكاملة تشمل التعريف بالمشكلة وأسبابها وخلفياتها وإنجاح الجهود الهادفة إلى الوصول إلى أفضل الحلول لمعالجتها.
6- وفي سبيل التحرك العاجل لإنجاح المؤتمر تم تشكيل لجان للدعم المالي وأخرى لإعداد أوراق المؤتمر.
زيارة وزير الدولة للشئون الإنسانية محمد يوسف إلى بروكسل وباريس في إطار الجهود الهادفة للحل السلمي في الأسبوع الأخير من مارس/آذار 2004.
بدأت المحادثات بين وفدي الحكومة ومسلحي دارفور في أنجمينا في مطلع ابريل/ نيسان 2004 برعاية الرئيس التشادي وأكد الوفد الحكومي استعداده للوصول بهذه الجولة إلى تحقيق سلام شامل.
موقــف الحكومة من الصراع الدائر
انتهت العمليات العسكرية في ولايات دارفور بمقتضى مبادرة رئيس الجمهورية في فبراير 2004 إلا أن الجماعات الخارجة على القانون تحاول ترويع المواطنين ونهب ممتلكاتهم في بعض المناطق الطرفية في شمال وغرب دارفور أما بقية المناطق في «دارفور الكبرى» فتنعم بالأمن والاستقرار.
ويعتبر الدفاع الشعبي في دارفور قوة نظامية تتكون من مختلف فئات وقبائل السودان كما هو الحال في بقية أنحاء السودان وله دور أساسي في مؤازرة القوات المسلحة وتعمل بإمرته وعليه لا ينبغي الخلط بينه وبين عصابات «الجنجويد» وبعض المليشيات القبلية المتنقلة التي لا علاقة لها بالجيش السوداني.
وتؤكد الحكومة السودانية أن الوضع في دارفور لن يحل بالعمل العسكري بل عبر الحوار السياسي والمؤتمر الجامع باعتباره الحل الأمثل للقضية إلا أن هذا لا يعني تخلي القوات المسلحة عن واجبها الدستوري وهو حماية المواطنين وضمان أمنهم وسلامتهم وممتلكاتهم.
وترفض الحكومة السودانية التدخلات الخارجية في قضية دارفور ومحاولات تدويلها، وقد أبلغت الرئيس التشادي الذي يرعى المفاوضات التي تجرى في بلاده حاليا عدم موافقتها على مشاركة أي طرف في المفاوضات مع حركة متمردي دارفور باستثناء مشاركة ممثلي تشــاد والاتحاد الإفريقي بصفة مراقبين.
الوضـع الإنساني في «دارفور الكبرى»
وتقول تقارير حكومية إن الأوضاع الإنسانية في دارفور التي تشغل بال الدوائر العالمية الآن كانـت ولاتــزال محــل اهـتمـام الحكـومة مـنـذ يـنـايــر/ كانون الثاني 2003 وتمخضت جهود الحكومة عن مبادرة وطنية قادتها المنظمات التطوعية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني السوداني والولايات والمؤسسات والوزارات إلى جانب الأمم المتحدة والمنظمات التطوعية العالمية وبمؤازرة كريمة من المانحين وبذلك أمكن توفير المساعدات الإنسانية لكل المتأثرين خلال مراحل مختلفة باستجابة ســريعة عالية الكفــاءة وفاعلية غير مسبوقة خففت آثار الكارثة.
وفي هذا الســـياق ثمّنت الحكومة عاليا المساندة والوقفة النبيلة لأهل الخير والعمل الإنساني في دارفور ووجدت التقدير في أوساط المتأثرين والفعاليات في دارفور والتي قامت بدورها بتكوين شبكة دارفور للسلام والتنمية التي تضم في عضويتها 26 منظمة محلية تسهم الآن في قيادة العمل الإنساني ودعم مبادرات السلام الاجتماعي
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 581 - الخميس 08 أبريل 2004م الموافق 17 صفر 1425هـ